بعد كلمة الأمير، وولي العهد، جاءت كلمة المشاركين في مؤتمر جدة الشعبي، وكلمة الشعب الكويتي الأبي في الداخل والخارج، التي ألقاها عبدالعزيز الصقر وفيما يلي نصها:

«بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت حفظه الله..
Ad


سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الموقر...

الإخوة الأفاضل...

في لقاء كهذا كويتي الغاية والرعاية والحضور ليس من المفيد أن نشرح أبعاد العدوان على عمقها واتساعها، ولا أن ندحض ادعاءات المعتدي على كذبها وافترائها، ولا أن نفضح ممارسات الغزاة على غدرها ووحشيتها، فكل واحد منا هو من ضحايا العدوان والمعتدي في الوطن، والولد، والأهل، وفي النفس، والرزق والعمل، وكل واحد منا واثق بعدل الله ونصره، وبأن الظالم لن يحصد إلا الشوك، والهزيمة، وسوء المنقلب. في لقاء كهذا مأساوي الظروف، مستقبلي التطلع ليس من الحكمة أن نقف على الأطلال على الرغم من فداحة الدمار، ولا أن نذرف الدمع على الرغم من هول المصاب، ولا أن ننثر الملح على الجرح لنغسل بالألم بعض مرارة الندم، فنحن الجيل الذي بنى الكويت وأبناؤه، ونحن الذين استطعنا بفضل الله، ثم بسواعدنا أن نجعل من الكويت منارة حضارة، ومعجزة عمران، ونحن قادرون بإذن الله وبعزيمتنا على أن نعيد للكويت الحرة مجدها وبهاءها.


في لقاء كهذا رسمي الدعوة، شعبي الاستجابة ليس الهدف أبداً مبايعة آل الصباح؛ لأن مبايعة الكويتيين لهم لم تكن يوماً موضع جدل لتؤكد، ولا مجال نقض لتجدّد، ولا ارتبطت بموعد لتمدّد، بل هي بدأت محبة واتساقًا، واستمرت تعاونًا واتفاقًا، ثم تكرّست دستورًا وميثاقًا، وقد أثبت الشعب الكويتي في أصعب الظروف، وأشدها خطراً وفاءه بوعده، والتزامه بكامل دستوره وعقده حين تمسك بشرعيته، ووقف وقفة الرجل الواحد وراء أمير البلاد وولي عهده، فسجل بذلك رائعة نادرة في التاريخ كسب بها احترام العالم، وأجهض من خلالها أحلام الغزاة، بل إني لأؤكد أن الاجماع الشعبي الكويتي في التمسك بالشرعية كان عاملاً حاسماً في تحقيق الإجماع العالمي غير المسبوق بتأييد الكويت.

حضرة صاحب السمو الأمير....

سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء....

أيها السادة:

لقاؤنا هذا إذن ليس مهرجان شجب وتنديد، ولا هو مظاهرة دعم وتأييد، فهذه أمور تجاوزنا فيها القول إلى العمل، وسخرنا فيها لهيب العاطفة لشحذ الفكر والعقل، وتوافدنا إلى جدة لحوار جدي جديد يضع المنطلقات الرئيسية لبناء كويت الغد المحررة، ومن هذا المفهوم لمبررات هذا اللقاء وهدفه، اسمحوا لي أن أبين ما أعتقد أنه من أهم الثوابت التي ينبغي الالتزام بها في إعادة بناء البيت الكويتي:

أولاً: المشاركة الشعبية القائمة على حرية الحوار، وأغلبية القرار، ورقابة التنفيذ، ولا أخالني اليوم في حاجة إلى توضيح مبررات هذا المنطلق الأول، والأهم مقتضياته، وكل ما يجري على ساحتنا الوطنية والعربية يقدم البراهين والشواهد، فاجتياح النظام العراقي للكويت هو في التحليل النهائي أحد الإفرازات المأساوية للحكم العراقي المطلق، الذي لا يقيم للإنسان وزنًا، ولا يعرف للحرية قيمة، والفشل العربي في منع العدوان بداية، وفي ردعه وردّه تاليًا، وفي الوصول إلى مخرج عربي من الأزمة بعد ذلك يعزى أولاً وقبل كل شيء إلى إنكار دور الشعوب، والتنكر لمصالحها، وفي الجهة المقابلة أثبتت التجربة الكويتية أن أصحاب الرأي الآخر عندما يلتزمون بأصول العمل السياسي، ويعملون بدافع الخدمة العامة، والولاء الكامل للوطن، وشرعيته الوطنية، ومن منطلق القناعة الفكرية المحررة من كل تبعية، فإن هؤلاء لا يمكن أن يقفوا إلا في صف الوطن، ودرعاً لشرعيتهم وحريتهم، والمشاركة الشعبية التي ندعو إليها في الكويت لا تحتاج إلى تنظير وتأطير، فهي واضحة المعالم والأسس والمؤسسات في دستور البلاد التي تفضلتم سموكم بالإشارة إليه، ويمكن أن تؤدي دورها السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي من دون تجاوز، وترسم حدود كل طرف من أطرافها دون ازدواجية بمجرد الالتزام الصادق، والتطبيق الواعي لدستور عام 1962م بكامل مواده وبنوده، خاصة أن استرشاد هذا الدستور بتجارب الدول الأخرى قد عزز هويته الكويتية الصادقة، فجاء بمثابة عبادة سياسية كويتية النسيج والنموذج، تنسجم مع مقاسات المجتمع الكويتي، وتتفق مع مناخه السياسي والاجتماعي، وتلبي احتياجات نموه وتطوره، والوثيقة الدستورية التي أضحت منذ لحظة المصادقة عليها، وإصدارها بمثابة عهد وميثاق بين الشعب وقيادته السياسية، وقد اكتسبت بالتأكيد تكريساً تاريخيًّا جديداً بعد أن مهرها شهداء الكويت بدم التضحية والفداء حين تمسك الشعب بالشرعية، معرباً عن وفائه النبيل بعهده، واحترامه الأصيل لميثاقه. وإذا كان الدستور الكويتي قد ضمن الحريات السياسية الكاملة للمواطن، فإني أجد من الواجب والمفيد في هذا السياق أن أركز على أن من شأن الصحافة الكويتية الحرة أن تلعب دوراً مهماً باعتبارها أداة التواصل الصادق بين الشعب والحكم، وإحدى مقتضيات حرية الحوار، ورقابة تنفيذ القرار باعتبارها كلمة الكويت الحرة، ورسالتها إلى أحرار العالم.

ثانيًا: وثاني الثوابت التي أود التركيز عليها هو «إسلامية العقيدة»، فالبيت الكويتي الجديد يجب أن يركز على إسلامية التربية، والخلق، والممارسة لتنشئة جيل مؤمنٍ بربه، مدركٍ لعظمة الإسلام وصلابته في الحق، وسماحة الإسلام في التعاون بين الخلق، متفهمٍ لمعانيه ومواقفه في هذا وذاك، منفتحٍ على العالم، مقبلٍ على مبتكراته يدعو إلى الله والخير بالمنطق والموعظة الحسنة، وبحسن التعايش مع الآخرين وأفكارهم بعيداً عن التعصب.

ثالثًا: وهنا أجد من الضرورة أن أقدم لهذا الموضوع بالقول: إن المحنة التي يعيشها المواطن الكويتي اليوم تضعه تحت ضغوط هائلة من الألم والخيبة والمرارة، وتجعل مطالبته بوضوح الرؤيا، وموضوعية التفكير في هذا الصدد مهمة صعبة، وليس على المواطن الكويتي في هذا عتب، ولا ملامة، فالأزمة من الهول والمفاجأة بحيث يحتار فيها الحليم والحكيم، ولكني على ثقة تامة بأنه عندما تعود إلى الكويت حريتها وشرعيتها، ويرتد عنها الغزاة خاسرين، وتنحسر عن الشعب الكويتي فورة الغضب، وشدة الألم سنعرف جميعا بإحساسنا القومي الصادق، وشعورنا العربي الأصيل أن من أهم أهداف النظام العراقي من غزوه للكويت دق إسفين الفتنة بين شعوب الأمة العربية، وزرع الحقد والضغينة في نفوسها؛ كي تبقى مجزأة متنافرة، تلعب الأنظمة المتآمرة بعواطفها وضد مصالحها، فلنقاوم جميعاً محاولات الزج بالشعوب في أتون نار الحقد؛ بسبب ما اتخذته أنظمة بعض هذه الشعوب من مواقف مخزية في مواجهة الخطيئة القومية، التي ارتكبها النظام العراقي، إن العروبة أصلنا، وهي قدرنا الذي لا نريد، ولا نستطيع منه فكاكًا، والذين يأخذون بعض الشعوب العربية بجريرة المستولين على السلطة فيها يتناسون أن بين هذه الشعوب وزعامتها هوة ساحقة، وشرخاً وسيعًا، وإذا كان من اجتاح الكويت عربيًّا، وإذا كانت القلة التي غرر بها عربية، فيجب أن نذكر، ونفخر أنهم عرب أيضًا، وهم الأغلبية الساحقة أولئك الذين وقفوا معنا، وفتحوا قلوبهم، وبيوتهم، وبلادهم لنا، وأرسلوا أبناءهم جنوداً للدفاع عن حقنا، والنضال في صفنا، ويجب ألا ننسى أننا نحن أيضاً كنا ممن غرر بهم النظام العراقي بشعاراته البراقة، وأضلهم بلافتاته الكاذبة، فناصرناه دون تحفظ، وساعدناه دون حدود؛ ليغزو بذلك بلادنا بسلاح اشتراه بمالنا بدعوى الدفاع عن الأمة والوطن...

صاحب السمو الأمير...

سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء...

أيها السادة:

إذا كانت هذه في اعتقادنا الثوابت الرئيسية التي يجب أن نستند إليها في التخطيط لإعادة بناء الكويت المحررة بإذن الله، فإن اهتمامنا بهذا الواجب المستقبلي المفعم بالأمل والتحديات يجب ألا يؤثر إطلاقا في توجيه جهدنا ومالنا لدعم أهلنا، وإخواننا، وأبنائنا الموجودين داخل الوطن، والتخفيف من آلام ومصائب أهلنا، وإخواننا خارج الكويت، ويجب أن يتم هذا في إطار خطة شاملة يشرف على تنفيذها فريق عمل رسمي وشعبي، واضح المسؤولية، واسع الصلاحية، محكم الرقابة، مع ضرورة إعطاء الأولوية المطلقة للصامدين فوق تراب الوطن، وتوفير المساعدة لمن يحتاجها في الخارج من دون أية مجاملة، أو تمييز، أو محاباة إلا من منطلق الحاجة والضرورة، ومصلحة البلاد.

وأخيراً يا صاحب السمو، لا يساورني أدنى شك في أني أترجم مشاعر وعواطف كل من في هذه القاعة، عندما أرفع صادق الشكر والتقدير والعرفان إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، وسمو ولي عهده، وحكومته الرشيدة، وشعبه الشقيق على موقفهم العربي الإسلامي النبيل إلى جانب الكويت أميرًا، وحكومة، وشعباً على استضافتهم الكريمة لهذا المؤتمر، والشكر والتقدير أيضاً لأصحاب الجلالة، والسمو، والسيادة قادة الدول العربية الشقيقة، ولشعوبهم الأبية التي عكست عمق الأخوة العربية وأصالتها، وحقيقة التراحم الإسلامي وروعته في استضافة المواطنين الكويتيين ورعايتهم، وفي تأييد الحق الكويت، ودعمه بكل طاقاته، وبإرسال أبنائها وقواتها تصدياً للغزو والعدوان.

رحم الله شهداء الكويت، ونصر شعبها، وأيد أميرها، وولي عهدها، وألهمنا جميعا الرشاد والسداد في خدمتها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

إن اعتبارات القيمة المستنتجة من هذا الخطاب كبيرة، وذات مغزى ومعنى ودلالة، ولا يتردد فيه أي وطني يحب الكويت، ويدرك أن الثوابت الثلاثة التي ذكرها الصقر في هذا الخطاب بذلك الترتيب المحكم هي ذات عمق بعيد، ورؤية بعيدة، بل إنه على الرغم من انتفاء الجدل حول الأولوية العقائدية للإسلام والعروبة، فإن أول الثوابت السياسية لديه هي المشاركة الشعبية؛ لأن الاعتراف بها يشكل تجسيداً للالتقاء الحر بين الإرادة الشعبية، وإرادة الحاكم، وهو الأسلوب الديموقراطي السليم الذي لا يفرض قيمًا، أو توجهات سلطوية من أعلى مهما كان سموها، وقد يترتب عليها التزامات سياسية، أو اجتماعية، أو مالية؛ أي أنه في ظل مثل هذا المجتمع الصحي فقط يمكن الحفاظ على وشائج الإسلام والعروبة، ومن المعلوم أن هذا النهج يتفق مع النهج الشرعي الذي لا يفرض الإيمان، أو العقيدة على الفرد مصداقًا لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) [البقرة،256 ]، وقوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)[يونس،99 ]، وبعبارة أخرى يمكن استنتاج حقيقة مهمة من ذلك تنتصر لمفهوم المشاركة، وهي أنه إذا كان الإكراه في العقيدة، وفي الايمان محرماً بنص القرآن الكريم، فإنه من باب أولى محرم فيما هو أقل أهمية من العقيدة، كالمعاملات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، التي بسببها وضع الصقر المشاركة الشعبية في المرتبة الأولى من الثوابت من الناحية السياسية في خطبته بجدة. وقد أراد عبد العزيز حمد الصقر، وهو البرلماني المخضرم التأكيد على الانتماء الجذري من دين، ولغة، وتماثل ثقافي، ووحدة في القضايا القومية المشتركة كقيمة سياسية عليا يهتدى بها في تحديد الهوية، ولعل السبب من وراء التمسك بهذه القيمة هو التماسك المحكم والمطبق على جذوره في التاريخ الكويتي القديم منذ أن كان الاتفاق على اختيار الحاكم بالشورى، وتقاسم السلطة بين جماعة العتوب، والقبول بالرئاسة السياسية لآل الصباح، فإن الممارسات العادية ترتبط ارتباطاً وثيقًا بالتقاليد الإسلامية كتسمية عام 1938 بسنة المجلس، والمقصود بذلك المجلس التشريعي المنتخب أسوة بالعادة العربية الإسلامية بتسمية السنين بالأحداث الجسام، التي تحدث فيها كعام الفيل مثلاً.

وتبدو القيمة السياسية، وفعاليتها في عدم اهتزاز مشاعر الانتماء في شقها العربي على الرغم من الصدمة العنيفة التي تسبب بها الغزو العراقي، والطعنة في الظهر التي أقدمت عليها القيادات السياسية في الأردن، والسودان، واليمن، وفلسطين بتأييدها العدوان، وقد كانت ردود الفعل الكويتية أقرب إلى الغضب، والدهشة، والاستنكار، وكان من الممكن أن يؤدي هذا الغدر إلى انشقاق نهائي داخل الوطن العربي، وزرع بذور الحقد والفتنة، ونوازع الانتقام بين دوله، لكن قطاعات واعية، وبعيدة النظر من النخبة الكويتية ارتفعت فوق الجراح، وناشدت مواطنيها التسامي فوق الغدر.

وأخيراً أرى هنا أن التجربة الكويتية، وبمعنى أصح الديموقراطية الكويتية كانت على المحك في اختبار مصيري، كان رافضاً للهزيمة، ومصرّاً على المقاومة، وكفاح المحتل، وهو بذلك استدعى تلقائيّاً رد الفعل الإيجابي في تعبير أقل ما يقال عنه إنه صادق، وقد كان حصيلة ثقافة سياسية تفاعلت مكوناتها طيلة قرون، لتعطينا شعباً متمسّكاً بالدفاع عن الدستور في زمن السلم، والتأكيد على انتمائه ووعيه في زمن الحرب، وهي شهادة تؤكد نضج الثقافة السياسية في الكويت.

ولعل من المناسب هنا ذكر أهمية دولة المؤسسات، فقد جاءت ضامنة لوحدة الكويت، وصمام الأمان لها، وإنها في الأزمات كانت جبهة موحدة؛ لتوحيد الصفوف جميعها خلف الشرعية المتمثلة بالأمير، وولي العهد، وذلك في إشارة غير مباشرة إلى الموقف الواعي لممثلي الشعب الكويتي، ومؤسساته في مؤتمر جدة 13–15 أكتوبر 1990م، وللتذكير بروح الدستور.

ولعل من المناسب ذكر أن هذا الحدث، ومؤتمر جدة الشعبي عام 1990م، وكلمة الشعب الصامد في داخل الكويت وخارجها، التي ألقاها عبد العزيز الصقر كانت لحظة تاريخية في حياته هو، وحياة كل الشعوب الحرة، التي تدرك معنى الولاء والانتماء، وحب الوطن، وهو بالذات ليس حديث العهد بتلك اللحظات، فإن كانت استقالته المسببة من رئاسة مجلس الأمة، والرجوع إلى صفوف المقاعد النيابية باختياره؛ فإن الأقدار شاءت أن تضعه في موقف تاريخي آخر، لا يقل عن سابقه، ولن يحظى أي رئيس مجلس أمة بما ناله عبد العزيز الصقر، عندما ألقى كلمة الشعب، وبايع أسرة الحكم، وهي بالمنفى على مرأى ومسمع العالم.