على هامش «طوفان الأقصى»: ثورة الأقصى وثورة سبارتاكوس والملحمة البطولية لشعب غزة الصامد
أوراق لها تاريخ
تتعدد الأوراق في أوصافها، وتختلف هذه الأوصاف تبعا للحجية التي تتمتع بها، وهي حجية قد تكون نسبية أو مطلقة، فقد تتعدى حدود أطرافها الذين وقعوها ولو بصفاتهم، وحدود المكان والزمان، واتفاقيات دولية تلحق بها شروط وأحكام وقواعد سرية واتفاقيات أو قرارات استعمارية ومنها في تاريخنا المعاصر اتفاقية «سايكس بيكو» التي أبرمتها الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا، التي قسمت العالم العربي بينهما في سنة 1916، وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الصادر بتاريخ 11/ 11/ 1947 الذي كان نتيجة تآمر الدول الاستعمارية على مقدرات الأمتين العربية والإسلامية، وهي كأوراق الشجر التي تديرها الرياح أمام التغيرات العالمية وأمام تنامي الوعي لدى الشعوب وإيمان الشعب الفلسطيني بقضيته وصموده في وجه العدوان الإسرائيلي، ومنها أوراق تظل خالدة مدى الدهر، كاتفاقية الماجنا كارتا، ومبادئ الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة سنة 1789م وهي مبادئ نادت بها الثورة الإسلامية الأعظم في التاريخ قبل اثني عشر قرنا من اندلاع الثورة الفرنسية، واتفاقيات حقوق الإنسان وحقوقه الاقتصادية والاجتماعية التي أبرمتها الأمم المتحدة، وصادقت عليها الدول، ومن الأوراق بين الأفراد ما هو رسمي أمام موظف عام أو بواسطته، أو عرفية توقع داخل جدران مغلقة، ومن الأوراق ما يباع في مزادات عالمية بملايين الجنيهات والدولارات لأنها تحمل توقيعا لزعيم أو عالم أو رياضي أو فنان أو مطرب أو صورة رسمها فنان عظيم.
ثورة الأقصى وثورة سبارتاكوس
والأغلب الأعم من الأوراق تكتب بمداد أسود إلا ورقتان كتبتا بالدماء إحداهما أول ثورة كتبت بدماء العبيد والأرقاء في عام 71-73ق.م التي قادها سبارتاكوس و70 من العبيد الذين فروا معه من السجون، وانضم إليهم الفلاحون ورعاة السهول ليهزموا جيشين للإمبراطورية الرومانية.
فقد سجل التاريخ في سجل الفخار هذه الثورة التي كانت أول ثورة للعبيد والأرقاء ولم يعبأ التاريخ بهزيمة هذه الثورة أمام الجيش الروماني بعد سنتين كاملتين، وسيسجل التاريخ أيضا في سجل الفخار والمجد والعزة والكرامة انتصار «طوفان الأقصى» بقيادة كتائب عز الدين القسام على الجيش الإسرائيلي، وانتصار شعب غزة في هذا الصمود أمام العدو الإسرائيلي.
أوجه الشبه بين الثورتين
ولعل إعجابي وانبهاري بثورة الأقصى هو الذي استدعى من ذاكرتي ثورة سبارتاكوس قبل الميلاد لأوجه الشبه بين الثورتين ومنها:
وجه الشبه الأول: قوة الجيشين الروماني عددا وعتادا وقوة الجيش الإسرائيلي عددا وعتادا تعضده أكبر ترسانة عسكرية لأقوى أربع دول عظمى هي: أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
وجه الشبه الثاني: قلة عدد وعتاد الثورتين، فثورة سبارتاكوس كانت تتكون من سبعين عبداً فروا من سجون روما ليقوموا بثورتهم بلا أسلحة أو بأسلحة خفيفة، وثورة «طوفان الأقصى» التي قام بها بعض مئات من كتائب القسام خرجوا من أنفاق هي كالسجون سواء بسواء وإن كانت بغير سجان.
وجه الشبه الثالث: تلاحم الفلاحين ورعاة السهول في الطرق التي سلكها سبارتاكوس بثواره، وانضمام بعضهم الى جيش الثوار وتلاحم أهالي غزة مع ثوار الأقصى بصمودهم الذي لا مثيل له أمام أبشع حرب إبادة جماعية.
إلا أنه لا يفوتنا أن نشير، إلى الفارق الكبير بين الثورتين، بأن ثوار وأبطال الطوفان وأبطال غزة، لم يكونوا عبيداً، ولن يكونوا سوى أحرار يدافعون عن أرضهم وحريتهم، أو شهداء عند ربهم يرزقون.
ملحمة غزة الصامدة
ولم يكن صمود شعب غزة الذي اهتز له ضمير العالم كله أمام الإمبراطورية الكونية أميركا وحلفائها وقاعدة استيطانهم إسرائيل في أرض فلسطين إلا ملحمة، فورقة الأقصى وورقة هذا العدوان اللتان كتبتا بدماء أبطال الأقصى والمدنيين من أبطال غزة أطفال الحجارة وآبائهم وأمهاتهم وشيوخهم وعجائزهم، وقد ربطتهم بأبطال المقاومة وحدة لا مثيل لها في التاريخ، وحدة الدم والأمل والمصير، وتمسكهم وتجذرهم بأرضهم ورفضهم التهجير، بالرغم من استشهاد أكثر من عشرة آلاف فلسطيني وجرح وإصابة ضعف هذا العدد مما أثار دهشة صحيفة هآرتس الإسرائيلية في مقالها الافتتاحي في عددها الصادر في 20 أكتوبر الماضي، والتي وصفت فيها الفلسطينيين بأنهم شعب من أفضل شعوب العالم الذين هبوا للدفاع عن حقوقهم بعد خمسة وسبعين عاما، وكأنهم رجل واحد، واستنكرت في الوقت ذاته حسابات إسرائيل وسياساتها التي يضيق أفقها عن استيعاب أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض، في تساؤلها: من غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده، وبهذه الشراسة وبهذا الكبرياء والتحدي؟
وقارنت هذه الصحيفة في افتتاحيتها بين تمسكهم بالأرض وبين هجرة اليهود بأعداد هائلة في المطارات منذ أول يوم في الحرب، ويقول كاتب الافتتاحية وهو يهودي من الأفضل أن نتخلى عن حلمنا الزائف بإسرائيل الكبرى.
الملحمة هي نصر آخر للطوفان
سؤال مشروع نطرحه على حكماء الإعلام المرئي والمسموع الذين يلقون باللائمة على أبطال القسام في «طوفان الأقصى» وتحميلهم مسؤولية هذه النكبة التي حلت بشعب غزة: أليست هذه النكبة وملحمة بطولة غزة هي انتصار آخر لـطوفان الأقصى، لا يقل قيمة أو فداءً عما حدث في السابع من أكتوبر من الانكسار والذل الذي لحق بالعدو الإسرائيلي بسب هزيمته أمام بعض عشرات من أبطال الأقصى، وهزيمة أخرى لإسرائيل لم نكن نتوقعها في حربها على غزة بهدف تهجيرهم قسريا وتركهم لأرضهم؟
أليس تظاهر شعوب العالم كله حتى في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لتحرير فلسطين هو نصر أولي ومعنوي لشعب فلسطين وقضيته، بتعريف الأجيال التي لم تكن تعرف أو تعلم شيئا عن فلسطين المسلوبة من شعبها الذي طرد من أرضه؟ أليس ذلك نصراً ثالثا لطوفان الأقصى؟
وللحديث بقية عن انتصارات أخرى لـ«طوفان الأقصى» التي أسقطت ورقة التوت عن إسرائيل والنظام العالمي ومأزق الديموقراطية في الوطن العربي.