نقطة فارقة بين «عين» العرب و«غين» الغرب
لفت انتباهي صورة تم تداولها في أواخر شهر سبتمبر الفائت لوزيرة الثقافة الفرنسية ريما عبدالملك وهي تعانق مهنئة الأديب الشهير أمين معلوف بمناسبة انتخابه أميناً عاماً دائماً للأكاديمية الفرنسية، وهذا المنصب هو من أرفع المناصب الثقافية التي يمكن أن يشغلها ويطمح إليها أي كاتب أو أديب أو مثقف فرنسي.
اللافت في الصورة أن كلا الشخصين، ولدا وترعرعا وتعلما في لبنان، ومن ثم حصلا على الجنسية الفرنسية بعد انتقالهما- بفعل التهجير القسري أو الهجرة الطوعية- الى فرنسا بحثاً عن ملاذ آمن أو مستقبل أكثر وضوحاً ويقيناً!
وبالطبع، فإن هذه الصورة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة لكثير من المبدعين من أصول عربية ممن لفظتهم دولنا ومجتمعاتنا ليتلقفهم من عرف قيمتهم أكثر منّا وفتح المجال أمام طموحاتهم واسعاً، ولم يعاملهم بدونية أو تعصب «شوفيني» بل استفاد مما لديهم من تميّز وإبداع نسبه في النهاية إليه.
أسماء كثيرة من أصول عربية برزت عالمياً في المجال السياسي فشغلت أعلى المناصب وتربعت على سدة القيادة في كثير من الدول، وتلك حال أحد عشر رئيساً لدول أميركا اللاتينة ومنهم: كارلوس منعم، ميشيل تامر، خوليو سيزار طورباي، ولا ننسى في المجال التجاري والاستثماري جوزيف صفرا، ومحمد الفايد، وغيرهما ممن حقق نجاحات مبهرة خارج وطننا العربي، أما في الرياضة فلا تخفى نجومية اللاعب المصري «محمد صلاح»، واللاعب الجزائري «بنزيمة» اللذين سبقهما الى المجد اللاعب زين الدين زيدان قائد المنتخب الفرنسي وحامل كأس العالم، وعلى المستوى الفني حاز الكثير من النجوم العرب شهرة عالمية لم يكن بالإمكان أن يحصلوا عليها لو بقوا- هم أو ذووهم- في بلادهم وتلك حال الممثل جيري ساينفلد والمغنية شاكيرا وغيرهما.
هذا الواقع يعكس الوجه المضيء لهجرة الشباب العرب التي تقف وراءها أسباب عديدة من أبرزها فقدان الاستقرارين الأمني والاقتصادي وانتشار الفساد والزبائنية في دولنا ومجتمعاتنا، الأمر الذي لا يمكنه التغطية على عذابات الكثيرين ممن رموا أنفسهم في عباب البحار أو امتطوا أجنحة السحاب بحثاً عن أحلام سرعان ما انقلبت الى كوابيس هي- رغم بشاعتها- أهون عليهم من جهنم الاقتتال والفقر والجوع والبطالة والجهل التي أرّقت سكينتنا.
فلا شك أن للهجرة انعكاسات إيجابية على المهاجر نفسه وعلى أسرته الصغيرة ومجتمعه الأكبر، ولنا في لبنان مثال حيث يعتمد الاقتصاد اللبناني بشكل كبير- وخصوصا في الفترة الراهنة- على ما ينفقه المغتربون من أموال خلال زياراتهم العائلية، إلا أن لهذه الظاهرة التي أصبحت مقلقة وجهها السوداوي المتمثل في كثير من المظاهر السلبية، وليس أبسطها التأثير النفسي وتشتت الأسر على الصعيد الخاص، ونزف المواهب والإبداعات على الصعيد العام.
***
من الأسئلة المشروعة التي قد تطرح في السياق، ماذا قدّم الغرب للمبدعين العرب؟ وإلى متى ستبقى النقطة المذروفة من «عين» العرب معتلية «غين» الغرب، لتتسع مروحة الفروقات على كل المستويات العلمية والعملية!؟
قبل البحث عن إجابات لهذه التساؤلات، يقتضي الإيمان المطلق بحقيقة مفادها أنه لا المجتمع الغربي أحسن حالاً من مجتمعنا ولا الصورة النمطية لمجتمعنا العربي مرتبطة دائماً بالجهل والتخلف والإرهاب، فلأي مجتمع على مستوى القيم والتقاليد والأعراف خصوصياته السلبية والايجابية. العنصر الرئيسي الذي يعوّل عليه لتمييز مجتمع عن غيره- وهذا ما قد يجيب عن استفهاماتنا- يرتبط بما تتيحه الظروف المحيطة وما تقدّمه المؤسسات الرسمية للمبدعين والمثقفين والشباب من إمكانات وتسهيلات وحوافز.
فالمجتمع الغربي الذي يعيش- ونعيش معه- في زمن التقدم التكنولوجي، هو نفسه الذي عاش أزمنة الظلم والظلام منذ العصور الوسطى الى بعيد الحرب العالمية الثانية، والمجتمع العربي والإسلامي الذي تلتصق به اليوم كل الصور والتوصيفات السلبية، هو نفسه الذي سبق أن أنتج حضارة الأندلس ومازال ولّاداً لكثير من المبدعين الذين يساهمون في إنجازات الحضارة الإنسانية في علوم الفلك والنجوم والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والبصريات، والفلسفة والأدب... إلخ. فالمسألة إذاً ترتبط بالبيئة الحاضنة للإبداعات والمؤاتية لتحقيق الإنجازات.
***
دائماً ما أذكر، كمثال على نجاح الدول في التصدي لأحد الملفات الشائكة، ما قامت به دولة الكويت في زمن مواجهة «جائحة كورونا»، إذ وجّه كل التركيز وخصص كل الوقت وصرف كل المطلوب على ما من شأنه تحصين المجتمع الكويتي من وباء متفش ومجهول فتّاك، فكانت كل الطاقات والجهود الفكرية والمالية والإعلامية، الرسمية والخاصة، مكرسة بجموعها لخدمة هدف واحد تم تحقيقه بنجاح.
وتلك هي النتيجة الإيجابية المتوقعة نفسها، إذا ما صنعنا ثورتنا الفكرية والعلمية على غرار الثورة الصناعية التي نقلت أوروبا من الظلام الى النور، وإذا ما ركبنا قطار النهضة كما فعل الأوروبيون فيما سمي «عصر التنوير»، وإذا ما وضع تطوير العلم على رأس سلم أولوياتنا، وخصص للابتكار موقعاً محورياً في خططنا... وهذا ما يرتبط حتماً بالإيمان الحقيقي– وليس الخطابي والمصطنع- بدور المؤسسات الأكاديمية والثقافية والمعرفية، وبأهمية تطوير المناهج التعليمية، وجدوى اعتبار البحث العلمي استثماراً منتجاً.
لسنا في مجتمعات عاجزة أن تعيد إنتاج من يماثل ويتمثّل بكلّ من الخوارزمي، والبيروني، وابن سينا، والرازي، وابن الهيثم، وابن النفيس، والإدريسي، وابن رشد، وابن خلدون، والفارابي، لاسيما إذا أتيح لنا -كما سمح لهم- الخروج عن المألوف بالتفكير والتعبير، ولم نستسلم فرادى وجماعات للجهل والخمول ولآفات التقليد على قاعدة «الحفظ لا الفهم»!
***
لا التغريد على «تويتر» نفعنا، ولا متابعة «إكس» المجهول سيفيدنا، فلنبحث عن الحقيقة باتباع نهج حقيقي يقودنا الى الحق.
* كاتب ومستشار قانوني