تصاعدت خلال الأسابيع القليلة الماضية وتيرة المنافسة بين مجلسَي الوزراء والأمة على تقديم تصورات المقترحات الشعبوية التي ترفع شعار «تحسين معيشة المواطنين»، التي تشمل زيادات مالية للموظفين والمتقاعدين بقيمة تصل إلى 1.37 مليار دينار في السنة الأولى من إقرارها، مما يشير الى اتفاق مبدئي متبادل على تمريرها لتتحمّل المالية العامة تكاليف متنامية في السنوات القادمة على الأرجح يكون المواطنون من الجيلين الحالي والقادم ضحيتها!
ومع تأكيد أن حصر «تحسين المعيشة» في كونها مجرّد زيادات مالية هو تعميم مخلّ وسوء فهم لطبيعة المصطلح الذي يتجاهل كل الأوجه الأكثر أهمية في مسألة تحسين المعيشة، كتدهور مستوى التعليم وتعثّر الخدمات الإسكانية وتأخّر نظيرتها الصحية، بل حتى التحديات المستجدة في البلاد كمواجهة بلوغ الأحمال الكهربائية مستويات قياسية خلال أشهر الصيف، أو الأمن الغذائي في ظل أوضاع جيوسياسية ترفع مخاطر تدفق الواردات الى البلاد، إلا أنّ الأكثر انحرافاً في مسألة ربط الزيادات المالية بتحسين المعيشة يتعلق بأنها تأتي في ظل تضخم متصاعد سجّل ما بين سبتمبر 2019
وسبتمبر 2023 نموا بلغ 13.7 بالمئة، وهو معدّل ارتفاع غير مسبوق منذ إعادة هيكلة أعداد المقياس عام 2013.
صرف وتضخّم
واللافت أن هذا الارتفاع خلال 4 سنوات جاء في ظل صرف الدولة لمبالغ مالية تجاوزت 3 مليارات دينار، كلها كانت تحت شعار «تحسين المعيشة» كبيع الإجازات الدورية ووقف استقطاع القروض مرتين ومنحة المتقاعدين والصفوف الأمامية، ومع ذلك لم يتحسّن المستوى المعيشي، خصوصا للمواطنين، لا سيما الطبقة المتوسطة، بل بالعكس زادت تضرراً.
وتشير تفاصيل ارتفاع التضخم خلال 4 سنوات - الذي لا يخلو من شكوك في كونه أقل من الحقيقي - إلى أن معظم النمو في مؤشرات التضخم يرجع الى الارتفاع القياسي في أسعار المنتجات والسلع الاستهلاكية، إذ ارتفعت حزمة الأغذية خلال الفترة المقارنة بـ 31.3 بالمئة، والملبوسات 25.4 بالمئة، والسلع والخدمات المتنوعة بـ 16.8 بالمئة، مما يدلّ على أن غلاء الأسعار في الكويت، خصوصا تجاه المنتجات الاستهلاكية، مسألة ترتبط بجوانب عديدة بعضها مستورد بفعل ارتفاع أجور الشحن والمواد الأولية، وبعضها الآخر محليّ مرتبط بالاحتكار وغلاء الإيجارات وتكاليف العمالة، وبالتالي فإن ضخّ الأموال على شكل زيادات مالية مستمرة هو أسوأ الخيارات لمعالجة التضخم، بل الأسوأ منه هو ما يمكن أن يدخلنا في دائرة «خبيثة» أو سامّة، تتمثّل في ارتفاعات متبادلة للزيادات المالية وغلاء الأسعار بشكل لا يمكن للميزانية العامة تغطيته، فيحدث أن يتبعها على العملة، مما يخفض قيمة الدينار.
تعميم مخل
ولا تتوقف مسألة انحرافات «تحسين المعيشة» بكونها ليست مخالفة لمقاصد المعالجة السليمة، فالدول بطبيعتها تشدد السياسة النقدية في محاولة توفير مناخات مصرفية واستثمارية لسحب السيولة من أيدي المستهلكين بهدف خفض الطلب، وبالتالي تراجع الأسعار، بل أيضا في تعميمها، بشكل مخلّ، لجميع الموظفين بغضّ النظر عن أن رواتبهم مرتفعة أم منخفضة، ولكل المتقاعدين الذي يتقاضون معاشات دون الـ 1000 دينار، حتى ولو كانت لبعضهم مداخيل مالية أخرى من استثمارات وعقارات أو غيرهما، فضلا عن الإصرار على صرف الزيادات المالية نقدا، مع تجاهل ابتكار أدوات دفع مفيدة حقا للأسر الكويتية، كأن يتم صرف الزيادة المالية الإضافية على شكل بطاقة مدفوعات تتضمن المصروفات الأساسية كمصروفات الكهرباء والماء والاتصالات والجمعيات التعاونية والأسواق الموازية والتموين وحتى محطات الوقود.
ولعل هذا المشهد الخاص بتعميم الزيادات لجميع الموظفين والفئة المستهدفة من المتقاعدين دون وضع شرائح أو تحديد للمستويات المالي يشير إلى كسل حكومي وقبول نيابي به في التمحيص بمستحقي الزيادات المالية أو ابتكار أدوات تضبط جانباً من انحرافاتها المتوقعة، وهذان الأمران، الكسل والقبول، سيدفع ثمنهما المواطن الأكثر احتياجاً من الطبقة المتوسطة فما دون.
الضريبة للإصلاح
اللافت أيضاً أن إيرادات الضريبة على الشركات أو السلع الانتقائية - بغضّ النظر عن الرأي فيهما - يفترض استخدامها لتحقيق إصلاحات مالية واقتصادية كخفض مخاطر التركز النفطي في إيرادات الدولة أو تنمية الاحتياطي العام أو على الأقل توجيه مواردها لمشاريع تضمن الاستدامة لتدفق الإيرادات غير النفطية أو تصحيح أوضاع سوق العمل، وليس لتغطية مصروفات جارية غير ضرورية يمكن الاستغناء عنها لو كانت لدينا إدارة حصيفة تتولى سياسات نقدية ومالية وتصورات اقتصادية تواجه فيها التضخم بأقل كلفة مالية ممكنة.
تناقض حكومي والحديث عن ضعف حصافة الإدارة الحكومية يلقي الضوء على صناع سياساتها، فوزير المالية الذي أرسل أجوبة عن أسئلة برلمانية حذّر فيها من أن «الزيادات المالية تحمّل ميزانية الدولة أعباء مالية إضافية وتناقض الترشيد الحكومي» عضو في مجلس الوزراء الذي أصدر بياناً وضع فيه لوزير المالية «المُفترض» اعتراضه على الزيادات المالية جدولاً زمنياً لنهاية العام الحالي لمراجعتها، وهو ذاته الوزير الذي ظهر في مؤتمر صحافي يوم الخميس الماضي ليتعهّد بحرص الحكومة على إنهاء قوانين تحسين المعيشة بحدّ أقصى نهاية العام، رغم اعترافه بأن المالية العامة تعاني أزمة سيولة (...)، في تناقض غير مستغرب من جهة الإدارة الحكومية.
غياب «المركزي»
ولم تتوقف المسألة عند التناقض الحكومي، بل بما يوازيه غياب لافت من الجهة التي يفترض أن تتولى مهمة الدفاع عن استدامة الاقتصاد الكويتي وماليته ومدخراته، وهي بنك الكويت المركزي، إذ إن المحافظ الحالي - على عكس سابقيه - لا يواجه التحديات الشعبوية المرتبطة بتعميق اختلالات الاقتصاد، أو رفع مخاطر المالية العامة، أو التحذير من تركّز الاعتماد على إيرادات النفط، في ظل أوضاع أسعار الطاقة المتقلبة وأوضاع سياساتها المناخية أو السياسات الحكومية والبرلمانية المنحرفة التي ترفع من احتمالات مخاطر المستقبل... ولا شك في أن تناقض الوزير ضمن مجلس الوزراء وغياب محافظ المركزي - كما حدث مع الحملة التي كادت تؤدي إلى إقرار قانون شراء القروض بداية هذا العام - سيرفعان من صدى الخطاب الشعبوي أكثر فأكثر.
مخاطر والتزامات
إن استغلال إيرادات النفط المرتفعة وقتياً بسبب عوامل استثنائية خارج إطار قوى العرض والطلب في سوق الطاقة كسياسات خفض الإنتاج لمجموعة «أوبك بلس»، أو لتوترات عالمية وإقليمية كحربَي أوكرانيا وغزة، هو استغلال مرتفع المخاطر سيؤدي حتماً إلى التزامات متصاعدة في المستقبل من الصعب الاستمرار في تلبيتها عند أي هزّة في أسواق النفط، أو عند تراجع عوامل الدعم الاستثنائية.