بالمفهوم العام تتكون الجريمة من ارتكاب فعل يتعارض مع القانون ويتنافى مع الثوابت القيمية والدينية الراسخة في الوجدان الجماعي، وهو ما يأخذ صورة التعديّ على حقوق الآخرين المستحق للعقاب، وبالمفهوم القانوني تقوم الجريمة على ركنين رئيسين هما: الركن المادي، أي السلوك الجرمي الذي يتمثّل بفعل الاعتداء على الحقوق والعناصر المحمية قانوناً مما يسبب لها أضراراً بيّنة تنتج عنها بصلة سببية واضحة، والركن المعنوي الذي يتمثل بوجود إرادة لدى الجاني بارتكاب الفعل وتحقيق نتائجه.
تركّز إجراءات التحقيق في الجرائم على البحث والتحري عن الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين المتورطين بأي جانب أو مرحلة من الجريمة وتثبيت مسؤوليتهم الجنائية التي يمكن أن تأخذ صوراً مختلفة من المساهمة أو التعاون، وعليه فإن العقوبة التي ينبغي ترتيبها عن الفعل الجرمي لا تشمل الجاني فقط بل تطول بالدرجة العقابية نفسه أحياناً كل من شاركه في الأمر أو التحريض أو التخطيط أو التحضير، وكل من ساعده في الارتكاب وإخفاء معالم الجريمة وكل من تستر عليه... أي كل من ساند المجرم وأمن له أي مساعدة مادية أو معنوية، وهو ما يعرف قانوناً بالمساهمة الجنائية.
***ينطبق هذا التعريف المختصر والمبسّط للجرائم الجنائية وما يرتبط بها من مسؤوليات وتبعات عقابية على جريمة الإبادة الجماعية، وجريمة الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان، وهذا ما تشير اليه المادة (5) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 وما تلاها أو يرتبط بها من مواد.
وبصرف النظر عن الفشل النسبي لمنظومة العدالة الدولية في إحقاق الحق والاقتصاص لمئات الآلاف وربما ملايين الضحايا من قتلتهم ومن مرتكبي أبشع الفظائع بحقهم، ومع علمنا برفض الكيان الصهيوني الانضمام لمعاهدة روما المذكورة لأنه يدرك ما في جعبة تاريخه من ارتكابات يندى لها جبين الإنسانية، تبقى جرائم العدو الصهيوني التي يرتكبها كل يوم في قطاع غزّة- كما عهده السابق واللاحق- (جرائم وحشية) أكثر شناعة من أي وصف جرمي محلي أو دولي!
الجريمة الكبرى هي ما يعتزّ به الكيان الغاصب ويدأب على ارتكابه يومياً بحق الآلاف من الأطفال والنساء والمسنين والأسرى الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يرفضون وجوده، وينتفضون ضد احتلاله، ويثأرون بدمائهم لاغتصاب أرضهم من عصاباته التي نكّلت بأسلافهم وما زالت تتمادى في وحشيتها بحقهم وحق أسرهم!
أما الجريمة العظمى فهي ارتكابات من تورطوا- أشخاصاً طبيعيين واعتباريين- بـ«المساهمة الجنائية» التي تأخذ شكل الصمت حيناً عن فظائع العدو، والتخاذل أحياناً عن ردعه، والتأييد عموماً لكل ما يقوم به من جرائم حرب وسلم وإبادة جماعية وتطهير عرقي مغطياً كل ذلك بأكاذيب إعلامية ومبررات مختلقة ومتحصناً خلف غطرسة تسانده فيها أعتى الدول واللوبيات والمنظمات المتحكمة بالعالم مالياً، اقتصادياً، وعسكرياً وسياسياً.
***
مسألة تأييد الشعب الفلسطيني وأهالي غزّة تحديداً في صراعهم الدموي المستمر وغير المتكافئ في العدة والعتاد مع الصهاينة المحتلين، ليست مسألة دينية فقط أو قومية فحسب، بل هي قبل أي اعتبار واجب أخلاقي وإنساني.
وهذا ما يفسر الموقف المشرّف لمدير مكتب نيويورك للمفوضية السامية لحقوق الإنسان كريغ مخيبر الذي أعلن استقالته من منصبه احتجاجاً على التعاطي المتخاذل للهيئات الأممية مع الوضع في قطاع غزة، حيث لفت- من منطلق خبرته الأممية المتراكمة لأكثر من ثلاثة عقود- الى وجود «إبادة جماعية» تتكشف أمام أعين العالم في ظل عجز غير مبرر للمنظومة الإنسانية الدولية نتيجة ما وصفه بـ«استسلام هيئات رئيسية في الأمم المتحدة للولايات المتحدة واللوبي الإسرائيلي»، مؤكداً- وهو من غير المسلمين- أن «المشروع الاستعماري الأوروبي دخل المرحلة النهائية لتدمير بقايا الحياة الفلسطينية الأصلية»، لافتاً في الوقت نفسه الى أن الدوافع الإنسانية وحدها أدت الى «ملء محطة غراند سنترال في نيويورك بالكامل من قبل الآلاف من اليهود المدافعين عن حقوق الإنسان الذين وقفوا تضامناً مع الشعب الفلسطيني وطالبوا بوضع حد للطغيان الإسرائيلي، مع العلم أن العديد منهم معرضون لخطر الاعتقال في هذه العملية»، منبهاً المفوض السامي بكل جرأة ووضوح الى وجوب «قول الحقيقة للسلطة» إذ «عندما يسعون إلى إسكاتنا بتشويه السمعة والافتراءات، علينا أن نرفع صوتنا، لا أن نخفضه»!
ولم يكتف كريغ مخيبر بالاستقالة تنديداً، بل ضمن كتابه الموجه الى المفوض السامي لحقوق الإنسان عدة نقاط أساسية يرى وجوب الأخذ بها والعمل عليها من المفوضية وجميع الهيئات والمنظمات الدولية الأخرى المعنية «نظرياً» بحقوق الإنسان، لافتاً الى أهمية ما يلي:
• العمل على وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الحصار الذي طال أمده على غزة، والوقوف ضد التطهير العرقي في غزة والقدس والضفة الغربية، وتوثيق الإبادة الجماعية، وتقديم مساعدات إنسانية ضخمة وإعادة الإعمار للفلسطينيين.
• إخضاع إسرائيل لمستلزمات حقوق الإنسان الدولية والقانون الدولي.
• التوقف عن التظاهر بأن هذا مجرد صراع على الأرض أو الدين بين طرفين متحاربين والاعتراف بحقيقة الوضع الذي يحدث فيه بشكل غير متناسب أن الدولة القوية تستعمر وتضطهد وتجرد السكان الأصليين على هذا الأساس من عرقهم.
• دعم جهود إقامة دولة واحدة ديموقراطية في كل فلسطين التاريخية، مع حقوق متساوية للمسيحيين والمسلمين واليهود، وتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري العميق.
• توجيه جميع جهود الأمم المتحدة ومواردها نحو النضال ضد الفصل العنصري.
• التأكيد والإصرار على حق العودة والتعويض الكامل لجميع الفلسطينيين وعائلاتهم الذين يعيشون حاليا في الأراضي المحتلة، في لبنان والأردن وسورية وفي الشتات في جميع أنحاء العالم.
- الدعوة الى عملية عدالة انتقالية، وضمان مساءلة جميع الجناة، وإنصاف جميع الضحايا.
• الضغط من أجل نشر قوة حماية تابعة للأمم المتحدة ذات موارد جيدة ومفوضة بقوة لحماية المدنيين من النهر إلى البحر.
• الدعوة الى إزالة وتدمير المخزون الإسرائيلي الضخم من الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية.
• فتح أبواب الأمم المتحدة على مصاريعها أمام جحافل المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينيين والإسرائيليين واليهود والمسلمين والمسيحيين الذين يتضامنون مع شعب فلسطين وحقوقه الإنسانية، ووقف التدفق غير المقيد لجماعات الضغط الإسرائيلية إلى مكاتب قادة الأمم المتحدة.
* كاتب ومستشار قانوني.