الجميل يسلك مسارات سردية متباينة في «المقطر»
المجموعة القصصية تتضمن خطاباً متزناً يجمع جمال البناء الفني والأبعاد الفكرية
يستلهم الكاتب عبدالهادي الجميل من الواقع نصوص مجموعته القصصية (المقطر)، مترجماً أحداثها عبر خطاب سردي جميل يحلِّق بالكوميديا والسخرية.
ينهل الكاتب عبدالهادي الجميل من واقع الحياة حكايات متنوعة موسومة بالمعاناة والألم، وممزوجة بالفكاهة والدهشة، ضمن سياق أحداث مجموعته القصصية (المقطر)، فتارةً يجنح إلى الكوميديا، وأخرى إلى ألوان سردية متباينة تهدف إلى إيصال المضمون بطريقة سلسة ومؤثرة.
يسلك الجميل طرقاً ممهدة في سرده، متجنباً المسالك الوعرة، مركزاً على مضمون القصة، إذ يحافظ على أسس السرد ومكوناته الرصينة، فيجد القارئ في حكاياته خطاباً متزناً يجمع بين جمال البناء الفني للسرد، وأبعاده الفكرية التي تنساب بسلاسة ضمن قص يتميز بالإيجاز والتكثيف ومفعم بالترميز.
بيوت الشعر المتقاطرة
في مقدمة الإصدار يقول الجميل: «اعتاد البدو خلال موسمَي الشتاء والربيع قديماً الإقامة في المقطر، وهو عبارة عن مجموعة من بيوت الشعر المتقاطرة على صف واحد، يمتد من الشرق إلى الغرب، فتبدو فوق الرمال كعربات القطار. يُبنى المقطر بهذا الشكل كي يمنع الأعين من كشف ستر البيوت المفتوحة، ولمنح النساء الحرية اللازمة التي تقتضيها تحركاتهن في بيوتهن أو عند تبادلهن الزيارات».
ويضيف: «في المساء، يتقاطر الرجال على مجلس أكبرهم سناً، أو أرفعهم مكانة، أو أكثرهم کرماً، وتجتمع النساء في بيت إحداهن. يضج المقطر بالحكايات والطرائف ورائحة القهوة والضحكات، حتى يحل الصيف، فتطوى البيوت مجدداً، ويتفرَّق أهلها في الصحراء، لتتحوَّل حكایات ليالي المقطر المبهجة إلى ذكريات شجية تظل حيَّة في الذاكرة إلى الأبد، حكایات هذا المقطر الذي بين يديك الآن».
دقة وإتقان
حرص المؤلف على انتقاء العناوين بكل دقة وإتقان، حيث يبحث عمَّا يجدي القارئ ويثير فضوله، للتعرف على مضمون القصة، كما سعى إلى اختيار عناوين معبِّرة، سواء باللغة العربية أو اللهجة المحكية، ومن هذه العناوين: «الفريزر»، و«دوا الجمعة»، و«هريس ناطع»، و«يواش يواش يا مرجيحة»، و«الاكصلانص»، و«حقد طبقي»، و«فائض قيمة الغباء»، و«ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة»، و«الفقراء لا يأكلون البقلاوة».
حدث عظيم
وفي قصة «الفريزر» يسرد حكاية جميلة عن جهاز التبريد الخاص بالأطعمة، وما أحدثه من تغيرات حينما دخل البيت، ويقول ضمن هذا السياق: «في صباح أحد الأيام، وأثناء وجودنا في المدرسة، اشترى أبي فريزر مستعملاً للبيت. عُدّ وجود الفريزر في بيتنا حدثاً عظيماً وتاريخياً في تلك الفترة، فلم تعرف مطابخ جيراننا أو معارفنا الفريزر من قبل، وعند عودتنا من المدرسة في ذلك اليوم دخلنا إلى المطبخ، وهناك لاحظنا وجود الفريزر».
يروي الجميل اللحظات الأولى عقب رؤية هذا الجهاز في بيتهم، قائلاً: «تحلَّقنا بحماس وصخب حول هدية السماء إلينا. تركت أمي قدر المطبخ، وأتت لتحول بيننا وبين الفريزر، وهي تلوح بالمغرفة المعدنية في وجوهنا، قائلة: وخروا عن (الفليزر)، شيل كوعك لا تخفسه، لا تفتحونه، ترى يخرب إذا طلعت منه البرودة، انتو مو وجه نعمة. انشغلت أمي بالفريزر وأهملتنا، حتى شعرنا بالغيرة الشديدة ولا نستطيع لومها على ذلك».
وحول تأثير هذا الجهاز على علاقة الأم بجاراتها: «بنفس الطريقة التي استغلت بها الرأسمالية الآلة البخارية للهيمنة على العالم بعد الثورة الصناعية قبل 250 سنة، استغلت أمي الفريزر في الهيمنة على جاراتها، وتحقق لها ذلك عندما حوَّلت الفريزر إلى ثلاجة مركزية لكل بيوت الجيران. قامت كل جارة بإرسال كيس كبير الحجم يحتوي على الدجاج واللحم، مكتوباً عليه اسم العائلة».
وسيتطرد الكاتب في وصف هذه العلاقة: «كانت والدتي تعاملهن بصلافة وفوقية، بل وتتحكم أحياناً في نوع وكمية حصة الغداء، كما كانت تفعل القوات النازية في معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية».
ومن أجواء نص «المقطر»: «نظرت إلى المرأة التي تجلس بجانبي، فلاحظت أنها تفرك كفيها ببعضهما بشكل مؤلم. رفعت بصري إلى وجهها، فلاحظت اهتزاز كتفيها وامتلاء عينيها بالدموع. كانت تبكي بحرقة، لكن بصمت. لم أكن بحاجة إلى أكثر من دموع هذه المرأة المجهولة كي تتدفق بحيرات الملح المحتجزة في عيني. لم أكن بحاجة إلى أكثر من لوعة امرأة غريبة كي تضج مدن الألم والحنين التي لم يمضِ على إنشائها في قلبي عدة ساعات فقط. امتلأت حنجرتي بالملح، فبكيت وأنا أضع برقعي المبلل بالدموع في فمي كي لا يسمع الرجال صوت الحنين والخوف والاشتياق في بكائي».
لحظات صعبة
وفي حكاية «طبيب زائر» يرصد الكاتب لحظات صعبة يمر بها المريض عندما تتضاءل فرص علاجه، ويقول ضمن هذا السياق: «أيقظه شيء ما، فشاهد، عبر إضاءة شاشات الأجهزة الطبية، خیالاً منحنياً بجذعه العلوي على قريبه الممدد على السرير. ظن أن الطبيب قد دخل الغرفة خلال نومه، فقرر عدم مقاطعته، وظل مستكيناً في مقعده في زاوية الغرفة، وعيناه تحاولان تبين ما يقوم به الطبيب، لكن الظلام منعه من ذلك. مضت عدة دقائق، فسأله أخيراً: هل هو بخير؟ أكمل الطبيب حديثه: هذه الأيام صعبة للغاية، وفي الحقيقة لم نعد قادرين على انتشاله من الانحدار المستمر، ونخشى الأسوأ في الساعات القليلة القادمة. سمع الرجل يقول ساخراً: قبل دقيقتين فقط كان يتفاخر بأنه أنقذ حياته، والآن يريد التخلي عن قريبك، لأن المواجهة أصبحت وشيكة! الأطباء يتفننون في الاستعراض بالبطولات الوهمية عندما لا يحتاجهم المريض، ويصبحون بلا فائدة عندما يحتاجهم! عندما يتحدث الطبيب، بتواضع ولطف، فاعلم بأنه قد فشل في مهمته. الآن لم يعودوا أطباء، أصبحوا عاجزين مثلك ومثل قريبك المحتضر، لذا أنصحك بعدم تحمُّل سخافاتهم مرة أخرى، لأن قريبك لن يكون بحاجتهم عند منتصف هذه الليلة. قال عبارته الأخيرة وغادر، فيما الأطباء يتناقشون حول تغيير خطة العلاج للمرة الرابعة».
.
حواجز أسمنتية وأسلاك شائكة
من أجواء حكاية «رأيت خيطان» المستقاة من واقع جائحة كورونا، يقول: «كانت الأسلاك الشائكة تخنق منطقة خيطان عدا ممرات ضيقة تركت كي تتنفس منها لتبقى على قيد الحياة. أوقفت سيارتي فوق رصيف طريق المطار الفاصل بين خيطان والفروانية. عبرت الشارع، ووقفت عند الحواجز الأسمنتية ذات الأسلاك الشائكة التي وضعتها السُّلطات لمنع سكان خيطان من مغادرتها خلال الحظر الكُلي القاسي الذي تم تطبيقه عام 2020 للحد من انتشار وباء كورونا. كانت هناك تجمعات بشرية متناثرة على امتداد الحواجز الأسمنتية التي تفصل سكان المنطقة عن زوارهم، الذين أتوا من المناطق الأخرى للاطمئنان عليهم، وتزويدهم باحتياجاتهم الضرورية من المواد الغذائية، التي يمررونها من فوق الأسلاك الشائكة. كان المشهد شبيها بالمناظر التي انطبعت في أذهاننا عن القرى الفلسطينية المعزولة بالأسلاك الشائكة بعد احتلالها إثر نكسة عام 1967، ما اضطر الأهالي إلى التجمع عند الأسلاك الشائكة لتبادل المؤن والتحايا والأخبار».
يسلك الجميل طرقاً ممهدة في سرده، متجنباً المسالك الوعرة، مركزاً على مضمون القصة، إذ يحافظ على أسس السرد ومكوناته الرصينة، فيجد القارئ في حكاياته خطاباً متزناً يجمع بين جمال البناء الفني للسرد، وأبعاده الفكرية التي تنساب بسلاسة ضمن قص يتميز بالإيجاز والتكثيف ومفعم بالترميز.
بيوت الشعر المتقاطرة
في مقدمة الإصدار يقول الجميل: «اعتاد البدو خلال موسمَي الشتاء والربيع قديماً الإقامة في المقطر، وهو عبارة عن مجموعة من بيوت الشعر المتقاطرة على صف واحد، يمتد من الشرق إلى الغرب، فتبدو فوق الرمال كعربات القطار. يُبنى المقطر بهذا الشكل كي يمنع الأعين من كشف ستر البيوت المفتوحة، ولمنح النساء الحرية اللازمة التي تقتضيها تحركاتهن في بيوتهن أو عند تبادلهن الزيارات».
ويضيف: «في المساء، يتقاطر الرجال على مجلس أكبرهم سناً، أو أرفعهم مكانة، أو أكثرهم کرماً، وتجتمع النساء في بيت إحداهن. يضج المقطر بالحكايات والطرائف ورائحة القهوة والضحكات، حتى يحل الصيف، فتطوى البيوت مجدداً، ويتفرَّق أهلها في الصحراء، لتتحوَّل حكایات ليالي المقطر المبهجة إلى ذكريات شجية تظل حيَّة في الذاكرة إلى الأبد، حكایات هذا المقطر الذي بين يديك الآن».
دقة وإتقان
حرص المؤلف على انتقاء العناوين بكل دقة وإتقان، حيث يبحث عمَّا يجدي القارئ ويثير فضوله، للتعرف على مضمون القصة، كما سعى إلى اختيار عناوين معبِّرة، سواء باللغة العربية أو اللهجة المحكية، ومن هذه العناوين: «الفريزر»، و«دوا الجمعة»، و«هريس ناطع»، و«يواش يواش يا مرجيحة»، و«الاكصلانص»، و«حقد طبقي»، و«فائض قيمة الغباء»، و«ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة»، و«الفقراء لا يأكلون البقلاوة».
حدث عظيم
وفي قصة «الفريزر» يسرد حكاية جميلة عن جهاز التبريد الخاص بالأطعمة، وما أحدثه من تغيرات حينما دخل البيت، ويقول ضمن هذا السياق: «في صباح أحد الأيام، وأثناء وجودنا في المدرسة، اشترى أبي فريزر مستعملاً للبيت. عُدّ وجود الفريزر في بيتنا حدثاً عظيماً وتاريخياً في تلك الفترة، فلم تعرف مطابخ جيراننا أو معارفنا الفريزر من قبل، وعند عودتنا من المدرسة في ذلك اليوم دخلنا إلى المطبخ، وهناك لاحظنا وجود الفريزر».
يروي الجميل اللحظات الأولى عقب رؤية هذا الجهاز في بيتهم، قائلاً: «تحلَّقنا بحماس وصخب حول هدية السماء إلينا. تركت أمي قدر المطبخ، وأتت لتحول بيننا وبين الفريزر، وهي تلوح بالمغرفة المعدنية في وجوهنا، قائلة: وخروا عن (الفليزر)، شيل كوعك لا تخفسه، لا تفتحونه، ترى يخرب إذا طلعت منه البرودة، انتو مو وجه نعمة. انشغلت أمي بالفريزر وأهملتنا، حتى شعرنا بالغيرة الشديدة ولا نستطيع لومها على ذلك».
وحول تأثير هذا الجهاز على علاقة الأم بجاراتها: «بنفس الطريقة التي استغلت بها الرأسمالية الآلة البخارية للهيمنة على العالم بعد الثورة الصناعية قبل 250 سنة، استغلت أمي الفريزر في الهيمنة على جاراتها، وتحقق لها ذلك عندما حوَّلت الفريزر إلى ثلاجة مركزية لكل بيوت الجيران. قامت كل جارة بإرسال كيس كبير الحجم يحتوي على الدجاج واللحم، مكتوباً عليه اسم العائلة».
وسيتطرد الكاتب في وصف هذه العلاقة: «كانت والدتي تعاملهن بصلافة وفوقية، بل وتتحكم أحياناً في نوع وكمية حصة الغداء، كما كانت تفعل القوات النازية في معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية».
ومن أجواء نص «المقطر»: «نظرت إلى المرأة التي تجلس بجانبي، فلاحظت أنها تفرك كفيها ببعضهما بشكل مؤلم. رفعت بصري إلى وجهها، فلاحظت اهتزاز كتفيها وامتلاء عينيها بالدموع. كانت تبكي بحرقة، لكن بصمت. لم أكن بحاجة إلى أكثر من دموع هذه المرأة المجهولة كي تتدفق بحيرات الملح المحتجزة في عيني. لم أكن بحاجة إلى أكثر من لوعة امرأة غريبة كي تضج مدن الألم والحنين التي لم يمضِ على إنشائها في قلبي عدة ساعات فقط. امتلأت حنجرتي بالملح، فبكيت وأنا أضع برقعي المبلل بالدموع في فمي كي لا يسمع الرجال صوت الحنين والخوف والاشتياق في بكائي».
لحظات صعبة
وفي حكاية «طبيب زائر» يرصد الكاتب لحظات صعبة يمر بها المريض عندما تتضاءل فرص علاجه، ويقول ضمن هذا السياق: «أيقظه شيء ما، فشاهد، عبر إضاءة شاشات الأجهزة الطبية، خیالاً منحنياً بجذعه العلوي على قريبه الممدد على السرير. ظن أن الطبيب قد دخل الغرفة خلال نومه، فقرر عدم مقاطعته، وظل مستكيناً في مقعده في زاوية الغرفة، وعيناه تحاولان تبين ما يقوم به الطبيب، لكن الظلام منعه من ذلك. مضت عدة دقائق، فسأله أخيراً: هل هو بخير؟ أكمل الطبيب حديثه: هذه الأيام صعبة للغاية، وفي الحقيقة لم نعد قادرين على انتشاله من الانحدار المستمر، ونخشى الأسوأ في الساعات القليلة القادمة. سمع الرجل يقول ساخراً: قبل دقيقتين فقط كان يتفاخر بأنه أنقذ حياته، والآن يريد التخلي عن قريبك، لأن المواجهة أصبحت وشيكة! الأطباء يتفننون في الاستعراض بالبطولات الوهمية عندما لا يحتاجهم المريض، ويصبحون بلا فائدة عندما يحتاجهم! عندما يتحدث الطبيب، بتواضع ولطف، فاعلم بأنه قد فشل في مهمته. الآن لم يعودوا أطباء، أصبحوا عاجزين مثلك ومثل قريبك المحتضر، لذا أنصحك بعدم تحمُّل سخافاتهم مرة أخرى، لأن قريبك لن يكون بحاجتهم عند منتصف هذه الليلة. قال عبارته الأخيرة وغادر، فيما الأطباء يتناقشون حول تغيير خطة العلاج للمرة الرابعة».
.
حواجز أسمنتية وأسلاك شائكة
من أجواء حكاية «رأيت خيطان» المستقاة من واقع جائحة كورونا، يقول: «كانت الأسلاك الشائكة تخنق منطقة خيطان عدا ممرات ضيقة تركت كي تتنفس منها لتبقى على قيد الحياة. أوقفت سيارتي فوق رصيف طريق المطار الفاصل بين خيطان والفروانية. عبرت الشارع، ووقفت عند الحواجز الأسمنتية ذات الأسلاك الشائكة التي وضعتها السُّلطات لمنع سكان خيطان من مغادرتها خلال الحظر الكُلي القاسي الذي تم تطبيقه عام 2020 للحد من انتشار وباء كورونا. كانت هناك تجمعات بشرية متناثرة على امتداد الحواجز الأسمنتية التي تفصل سكان المنطقة عن زوارهم، الذين أتوا من المناطق الأخرى للاطمئنان عليهم، وتزويدهم باحتياجاتهم الضرورية من المواد الغذائية، التي يمررونها من فوق الأسلاك الشائكة. كان المشهد شبيها بالمناظر التي انطبعت في أذهاننا عن القرى الفلسطينية المعزولة بالأسلاك الشائكة بعد احتلالها إثر نكسة عام 1967، ما اضطر الأهالي إلى التجمع عند الأسلاك الشائكة لتبادل المؤن والتحايا والأخبار».