أن تكون إنساناً الآن في هذه اللحظة التاريخية وغزة بل فلسطين تقدم دم أطفالها قرباناً للإنسانية، الحق أنه أمر صعب، بل ربما مستحيل، وأن تكون عربياً يراقب الموت الفلسطيني وهو يمارس تمارين حياته اليومية لهو أمر موجع، فماذا لو كنت خليجيا من تلك البقعة من هذه الأرض التي عمّدها الأنبياء والرسل بدمهم وعرقهم وبعض من حبهم؟ ماذا عنك وبعض أهلك بل ربما كثيرون منهم يتابعون الموت الفلسطيني المعلب في نشرات الأخبار والتغطية التي لا تموت فيما الموت رخيص جدا هناك؟ ماذا وأنت تنتقل من صور جثث الفلسطيني المتفحم وأشلائه الملتصقة بجدران منزله أو على أرصفة الشوارع؟ ماذا وأنت ترى صورا قادمة من الخليج أو بعض بعضه وبعضهم يرقص هنا وآخرون طربون بالغناء وغيرهم يستعرضون معرضا للمجوهرات أو الخيول العربية أو السيارات الفارهة وآخرها منتدى للحوار فيما الحوار مفقود و... و... ثم يذرفون الدمع بعد صلاة الجمعة والإمام يقرأ ما كتبه له ذاك المخبر الصغير جداً، والمصلون يرددون «الله أكبر والعزة للإسلام» في اللحظة نفسها التي يلقي فيها جندي صهيوني قنبلة على المصلين في مسجدهم في فلسطين؟

قالوا هم وقلنا معهم منذ سنين إن الخليج ليس نفطاً رغم أن النفط سلاح لم يعرفوا قيمته إلا في لحظة تاريخية واحدة، ثم تحول إلى أداة للسيطرة والاستغلال والهيمنة أو ربما الذل لشعوب تعبت من كثرة ما قيل عنها إنها رعية ولم تفهم أو تعيش عزة المواطنة، الخليج أيضاً ليس العمارات الشاهقة ومراكز التسوق والرفاهية المحصورة في طبقة أو شريحة، الخليج كان وسيبقى جزءاً من محيط متفاعل معه ومتأثر به، فلا يستطيع أن يرى الفلسطيني يقتل على شاشات الكون ويقف ليتفرج أو لا يرفع الصوت أو ربما يتظاهر، ويتفاعل على وسائل التواصل وهو في رأيه «أضعف الإيمان»!! الخليج ليس بعيداً عن غزة سوى بضع نبضات قلب، وكثير من الدمع الذي يتحول إلى شلالات من الحزن لا تلبث أن تتحول إلى غضب بل ربما براكين غضب نائمة لا تلبث أن تنفجر.

Ad

بعض غزة أو كثير منها قد فضحهم بل فضحنا جميعاً، أن تكون مع غزة قال بعض «الخليجيين» أو هم بعض الكتبة وحملة الأختام أو «صبابي القهوة» هو ألا ترضخ لمنطق العقل الجماعي، وهو في مجمله «غوغائي» أو عاطفي أو أنه لا يقبل الرأي الآخر «العقلاني» جداً، هذه الفئة نفسها تتصور أن العقل قد توقف عند كل الخليجيين إلا هم، وأن المنطق قد رحل دون رجعة، وأنهم أو أننا «عاطفيون» جداً!! أثار غضبهم تجمهر وتظاهر وغضب كثير من الخليجيين نساء ورجالا وشيابا وشبابا بل أطفالا من الكويت حتى عمان وما بينهم رغم أن كثيراً مما بينهم لم يستطع أن ينال حتى هذه المساحة الصغيرة جداً والضعفية جدا للتعبير عن وقوفه مع أهله وناسه في غزة بل كل فلسطين.

استفزتهم الاعتصامات المنزوعة الحرية وأغضبتهم الصرخات والدعوات للمقاطعة، فشهروا سيوفهم كما شهرت الصهيونية أسلحتها، وراحوا يعملون جهدا بائسا لتهبيط العزائم ورمي التهم، حتى أنهم وصفوا شعوبهم، وبالطبع هذا ينطبق على من يقرؤون أو يستمعون لهم، بالجهل والغوغائية وعقلية القطيع.

نعم، نعم، وصفوا الخليجيين المخالفين لهم بالقطيع، ولم يتصوروا أن القطيع هو من يسايرهم!! هم بالطبع أحرار فيما يفكرون أو فيما يفكر من يدفع لهم أو من يجبر من يدفع لهم، ولهم مطلق الحرية في الاستمتاع بصحبة أفيخاي أدرعي وآخرين على شاكلته وشاكلتهم، ولكن ليس لهم الحق في التسخيف بحق الخليجيين نساء ورجالا وأطفالا في التعبير عن غضبهم وخوفهم وحبهم لأهلهم في غزة، بل كل فلسطين ولبنان، كل لبنان لا جنوبه فقط، فيما لهم هم، أي تلك الفئة المسخ الحق في أن يأخذوا صورة باهتة توضع في قاع مزبلة التاريخ مع أي صهيوني أو متصهين، رغم أن هذا لن يضمن لهم أي مساحة في أي بقعة من أي تاريخ سيكتب حتى لو كان ذلك مزبلة التاريخ التي طالما حدثونا عنها وخوفونا من أن ننتهي فيها حتى هي لا مساحة لهم فيها.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.