رفض مجلس الأمن وقف الحرب وقراره وقف القتال في عام 1948 (2- 2)
في سياق ما قرره مجلس الأمن من رفض وقف حرب إسرائيل على غزة استعدت من الذاكرة قرارا صدر في 22 مايو 1948 بوقف القتال في فلسطين، بعد أسبوع واحد من بدء الحرب، لأرد أسباب التناقض بين القرارين، إلى ثلاث مجموعات من الأسباب: أولها، الأسباب المشتركة بين القرارين لخصتها في سبيين رئيسين هما أن إسرائيل صنيعة النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الأولى، والذي يتدثر فيه الاستعمار بغطاء قانوني عالمي، هو ميثاق الأمم المتحدة، وأن النظام العالمي انشأها لأداء دورها كمخلب قط في حماية مصالح الدول الكبرى في استعمارها للعالم، وعلى الأخص مصالحه في الأرض العربية، كإسفين يشطر الوطن العربي إلى نصفين، بما يمنع امتداده الجغرافي لتحقيق وحدته، وثاني هذه المجموعات، أسباب صدور قرار وقف القتال في 22 مايو 1948، وأرجعتها إلى ثلاثة أسباب: أولها أن الانتداب البريطاني كان قد انتهى بقرار من الأمم المتحدة، بعد أن انتهت بريطانيا بنجاح في توطين اليهود في أرض فلسطين، وإنشاء ثلاثة جيوش صهيونية تحت مظلة الانتداب، والتي حققت هدفها في تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم، وثاني هذه الأسباب انتصار الجيوش العربية الساحق على جيوش الصهاينة في أسبوع واحد، وثالث هذه الأسباب عدم احترام قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين.
وأرد في هذا المقال المجموعة الثالثة من الأسباب فيما يتعلق بقرار مجلس الأمن رفض وقف الحرب إلى هذه الأسباب:
السبب الأول: أن عار إسرائيل من هزيمتها من «طوفان الأقصى» هو عار لحق بالاستعمار العالمي الذي استبدل بمفهومه القديم القائم على احتلال الأراضي مفهوما جديدا هو السيطرة على كل دول العالم وشعوبها سياسيا واقتصاديا، بل حتى ثقافيا تحت مظلة الحرية وحقوق الإنسان التي تغدو سرابا وزيفا، عندما يكون من مصلحة الدول الاستعمارية غض النظر عن انتهاك حقوق الإنسان في الدول الصديقة والحليفة، أو الدول الجاذبة لاستثمارات الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات.
السبب الثاني: أن عار إسرائيل هو عار يلحق بالسلاح الغربي.
وحيث يجري التسابق على إنتاج الأسلحة وتطويرها والعمل على ابتداع أكثرها فتكاً بالبشرية، بين الدول الاستعمارية، لاستنزاف ثروات الدول الأخرى في شراء مخزون الأسلحة الهائل لدى الدول الاستعمارية.
السبب الثالث: أنه لا جريمة ضد الإنسانية إلا إذا كانت تمس يهودياً
وهي حقيقة قالها نائب فرنسي من النواب ذوي الضمائر الحية، في الجمعية الوطنية الفرنسية، في اجتماع للبرلمان الفرنسي لمناقشة قانون غايسو فابيوس، وهو قانون يضع قيدا على حرية الرأي وحق التعبير عنه، إذا كان منكرا للهولوكوست اليهودية ويعاقب على ذلك بالحبس.
ما أصدقها هذه الحقيقة في هذه الأيام والمدعي العام في المحكمة الجنائية ذهب إلى غزة، ولم يستطع دخولها ليحقق في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها «طوفان الأقصى»، لا للتحقيق في الحرب الإسرائيلية على المدنيين في غزة، ولا يزال يرد ذلك على صفحات الصحف.
السبب الرابع: النظام العام الدولي هدفه حفظ التوازن بين الدول الاستعمارية الكبرى.
إن النظام العام الدولي المتمثل في ميثاق الأمم المتحدة، والذي أعدته وصاغته الدول الاستعمارية الكبرى وعلى رأسها أميركا، إنما كان هدفه الوحيد هو حفظ التوازن في القوى بين الدول الاستعمارية الكبرى، وقد كانت الحرب العالمية الثانية صراعا بين هذه الدول (الحلفاء)، وبين دول المحور ألمانيا والنمسا، وقد أدت هذه الأخيرة الى السيطرة على العالم كله، وقبلها كانت الحرب التي خاضتها الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى من 1914 إلى 1917، وسقطت في نهايتها خمس إمبراطوريات هي الألمانية، والنمساوية، والهنغارية، والروسية، والعثمانية، وسلخت من الأخيرة البلاد العربية.
فلم يكن الصراع في هاتين الحربين الا صراعا استعماريا، ولم يوضع ميثاق الأمم المتحدة لحماية الشعوب أو لصون حقوق الإنسان، أو لإرساء الحكم الديمقراطي، إنما كانت المواثيق المتعلقة بهذه الأمور غطاء تجميليا للوجه القبيح للاستعمار في مفهومه الجديد القائم على السيطرة على العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
السبب الخامس: المتغيرات العالمية في واقع الحروب
فقد كانت عمليات القتال في الحروب التقليدية في الماضي تجري في ساحات مخصصة للمعارك، لكن الحروب الحديثة أصبحت تدور رحاها في قلب المناطق المأهولة بالسكان، وصار المدنيون اليوم هم ضحايا هذه الحروب.
ومن هنا كان لزاما على المجتمع الدولي أن يعيد صياغة اتفاقيات جنيف، سواء الاتفاقية الأولى، التي وقعت منذ ما يقرب من مئة وستين عاما لتواجه هذا الواقع المتغير، خصوصا أن ما تم التوقيع عليه من بروتوكولات في أعوام 1949 و1977 و2005 مكمل لاتفاقيات جنيف في حماية المدنيين، لأن القانون الإنساني ذاته، الذي تدخل فيه هذه الاتفاقيات، واتفاقيات جنيف، رهن بالتزام الدول العظمى الاستعمارية بتطبيقه، فضلا عن تفسيره، وقد فسرت هذه الدول الحرب على غزة بأنه دفاع عن النفس.
هذا غيض من فيض للتدليل على عدم احترام القانون الدولي الإنساني، لأن السيادة مصدرها القوة منذ قديم الأزل، وستظل القوة تحكمنا إلى أن نصبح أقوياء!