خلال الفصول التشريعية السابقة، أصبحت أعداد القوانين المنجزة معيار نجاح مجلس الأمة ونوابه، وهو ما ترتب عليه أن تكون الإحصائيات الشهرية الصادرة عن الأمانة العامة للمجلس أداة القياس لتقييم كل فصل تشريعي، وامتد هذا الأمر إلى الحملات الانتخابية، حيث يستشهد كل نائب سابق أمام ناخبيه بأعداد الاقتراحات بقوانين التي قدمها أو الأسئلة البرلمانية التي وجهها.

هذا المسار الذي طغى على أداء المجلس في السنوات الماضية، استبعد كفاءة التشريع وجودته، وتجاهل التطبيق وأثره، فباتت قوانين عديدة موجودة على شجرة التشريعات الكويتية مهجورة لأسبابٍ أهمها أنها صدرت بنوايا الأرقام النيابية لا الإصلاحات الفعلية، لذا لم تحقق على مدى السنوات الماضية أي أثر على القضايا «التقليدية» التي تعانيها الدولة منذ عشرات السنوات، كالقضية الإسكانية وارتفاع حجم الطلبات، وتراجع المستوى التعليمي وتدهور المخرجات، واستمرار الابتعاث للعلاج في الخارج رغم إنجاز العديد من المستشفيات الضخمة، وعلاوة على ذلك التراجع المستمر للحالة الاقتصادية المحلية وبيئتها التشغيلية.

Ad

وأمام هذا المشهد السابق، يقف مجلس الأمة في فصله التشريعي الحالي أمام تحدٍّ برلماني تشريعي، فإما أن يرث سلوكاً كان محل انتقاد سياسي ويستمر في مساره والانجراف نحو لعبة الأرقام، أو يعيد كتابة التاريخ البرلماني من جديد وفقاً لطبيعة العلاقة الجديدة مع الحكومة، منطلقاً من حالة التوافق والزخم الشعبي لأعضاء السلطتين.

ولا شك أن التنسيق والاتفاق على التشريعات خطوة جيدة لمصلحة الدولة والمواطنين، تقرب وجهات النظر بين الحكومة والبرلمان لتجاوز المواد الخلافية، وتدفع أكثر نحو الإنجاز، بيد أن الجلسة التي نوقشت فيها أول مشاريع الخارطة أعطت مؤشراً سلبياً أعاد إلى الأذهان مسار الفصول التشريعية السابقة في التعامل مع التقارير البرلمانية.

فخلال مناقشة تقريري اللجنة الإسكانية البرلمانية حول تنظيم الوكالة العقارية ومكافحة احتكار أراضي الفضاء، قرر المجلس دمج مناقشة القانونين دون إعطاء كل قانون حقه اللازم من الأهمية، وقتاً ونقاشاً وتركيزاً، بل إن مدة الحديث لكل نائب عن المشروعين كانت ثلاث دقائق فقط رغم أثرهما المالي والعقاري والقانوني، فصار الحديث في قاعة عبدالله السالم مشتتاً بين هذا وذاك.

وعلى مدى ساعتين تقريباً، سيطر النقاش العام على أغلب مداخلات أعضاء مجلس الأمة دون الدخول في تفاصيل القانونين وموادهما، وجنح معظم النواب نحو تسجيل مواقف سياسية لاستعمالات انتخابية بعيدة عن صلب المشروعين، كما أن الجانب الحكومي، ممثلاً بوزير الدولة لشؤون الإسكان ووزير العدل السيد فالح الرقبة، لم تكن له أي مداخلة أو تعليق رغم أن تنفيذ المشروعين سيكونان تحت عهدته.

صوَّت المجلس بالموافقة على المداولة الأولى للقانونين، قبل أن يستمع الأعضاء لردود اللجنة الإسكانية البرلمانية على مداخلاتهم، بل إن اللجنة التي أعلنت وجود تعديلات مقدمة من بعض النواب لم تتلُها على المجلس حتى يكون الكل على بينة قبل التصويت.

تنص المادة 103 من اللائحة الداخلية لمجلس الأمة على أنه «... إذا وافق المجلس على المشروع من حيث المبدأ انتقل إلى مناقشة المواد التي قُدِّمت اقتراحات بتعديلها بعد تقديم تقرير اللجنة المرفق به المشروع الأصلي، ويؤخذ الرأي على التعديلات المقدمة على كل مادة من هذه المواد بعد تلاوة كل منها، ثم على المشروع في مجموعه إتماماً للمداولة الأولى».

والجدير بالذكر أن اللجنة طلبت في البداية إمهالها نصف ساعة لإدخال تعديلات على المشروعين تمهيداً للتصويت عليهما في مداولة ثانية في ذات الجلسة، إلا أنها تراجعت لاحقاً بناء على طلب بعض النواب، وهي خطوة تداركت الوقوع في الخطأ الأكبر.

هذا المشهد العام للجلسة السابقة يخشى أن يكون السلوك المهيمن على الجلسات القادمة، عبر نقاشات لا ترقى إلى أهمية القوانين، وتتجاهل كفاءة التشريعات وجودة صياغتها، وتتجاوز الإجراءات اللائحية سعياً لإتمام التصويت في مداولتين، وضعف تقارير اللجان البرلمانية من حيث نقص البيانات وضعف المعلومات وغياب الفحص الدستوري، كل ما سبق لن «يصحح المسار»، بل يجعله أكثر سوءاً، ويعيد أجواء المجالس السابقة.

أمام مجلس الأمة تحديات عديدة تتطلب جدية أكثر في الممارسة البرلمانية، فعلى سبيل المثال من المقرر أن يناقش المجلس في الجلسة المقبلة قانون تطوير المنطقة الشمالية، وهو مشروع فكرته تأسيس مدينة كويت جديدة، بكل نواحيها التشريعية والتنفيذية والاقتصادية، ولا يتصور مشروع بهذا الحجم في فكرته وأبعاده أن يناقش في جلسة والتصويت عليه في مداولتين أو حتى أن تكون الثانية في الجلسة التي تليها، فلا بد خلال مناقشة هذا المشروع من الاستماع إلى جميع الوزراء أصحاب العلاقة مثل الداخلية والعدل والإسكان والتجارة والشؤون وغيرهم، والاستماع هنا يكون تفصيلياً لا شكلياً حتى تتحقق مقاصد المشروع والمشرع.

ما سبق مثال من خارطة تشريعية تتضمن العديد من التشريعات ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والمالية، والانتباه لهذا الجانب الأساسي والرئيسي في مسار التشريع، واتخاذ التدابير اللازمة لتجنب الفوضى التي ستترتب لا محالة على التشريعات المستقبلية أفضل من تجاهله والسقوط في الهاوية لاحقاً، مع مراعاة أن التعامل بجدية أكثر مع مشاريع القوانين، فنياً وقانونياً، مسؤولية أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية كلتيهما.