أعترفُ بأنني قد عُدت في هذا المقال إلى دفاتري القديمة يوم كان الأستاذ دريني خشبة يُدرّسنا الثقافة اليونانية في معهد السينما، فقد كان إلى جانب تدريسه «الإلياذة والأوديسة» لهوميروس، يأتي على ذكر أرسطو وكتابه العظيم «فن الشعر».
***
فأرسطو يرجّح أن الشعر نشأ أصلاً عن ميول ونزعات راسخة في الطبيعة البشرية، فنزعة المحاكاة تولد مع الإنسان الذي هو أكثر استعداداً لها، وبها يكتسب بعض معارفه الأوّلية، فالمُحاكاة - كما يقول أرسطو - لذيذة ومشاهدة المحاكيات لذيذة أيضاً، وهناك شبه اتفاق بين أرسطو وأستاذه أفلاطون في أن نشوء الشعر يعود - أيضاً - إلى ميل الإنسان إلى انسجام الإيقاع الذي تحتوي عليه موسيقى القصيدة الشعرية.
***كما يرى أرسطو أن الشعر فن محاكاة كالموسيقى والرسم، ويقسّمه إلى سردي ودراماتيكي، فهوميروس عندما يروي - كإنسان - يختلف عنه، عندما يُخضع القصيدة للشعر الدراماتيكي الذي قد يكون حماسياً، أو ملحمياً، أو مسرحياً، فلكل نوع من هذه الأنواع طبيعته، فالملاحم تتحدث عن عظماء الأبطال.
ويشرح أرسطو - بإيجاز - تاريخ شعر التراجيديا، والكوميديا، ويحدد بدقّة أوجه الاختلاف بينهما، كذلك يبيّن الفرق بين شعر الحماسة والشعر التراجيدي، الذي يقسمه إلى ستة أجزاء أساسية، هي الموضوع، والأشخاص، والفكرة، والأسلوب، وطريقة العرض، والأناشيد الغنائية.
***ومما جاء في كتاب فن الشعر لأرسطو:
«ليست وظيفة الشعر أن يصوّر لنا الحياة كما هي بتوافهها وأحداثها، ولكن مهمة الشعر أن يخبر عمّا يمكن أن يحدث، لا عمّا حدث فعلاً، والممكن يكون حسب الاحتمال أو الضرورة، والضرورة هي ما يدعو إليها الارتباط الوثيق بين الحوادث، فعالم الممكن الذي يخلقه الشاعر أكثر مادية من عالم التجارب، ولا يختلف الشاعر عن المؤرخ باستعمال الوزن». وقد بيّن أرسطو الفرق بين المؤرخ والشاعر، فقال إن المؤرخ يروي ما حدث فعلاً، أما الشاعر فيخلق ما يمكن أن يحدث.
***ولهذا قال لنا الأستاذ دريني خشبة عن الشعر: كان الشعر أحسن حظاً من الفلسفة، وأسمى من ناحية الموضوع من التاريخ، لأنّ الشعر يروي الكلّي، والتاريخ يهتم بالجزئي، والشعر يُعنى بالروابط المنطقية بين الحوادث، أما التاريخ - في نظر أرسطو - فلا يفعل ذلك.