من وقت لآخر، تظهر على الساحة المحلية أو الإقليمية، أو حتى الدولية، قضية ذات ارتباطات مالية أو اقتصادية، أو تحتوي على مجموعة من الفرضيات التي تحتاج إلى إثبات أو تحليل علمي، يتضمن توقعات لسيناريوهات واحتمالات واستشرافاً للمستقبل، في وقت تفتقر الكويت لوجود مراكز أبحاث محترفة «حكومية أو أكاديمية أو خاصة» تتولى مهمة تقديم دراسات على قدر عالٍ من المهنية تناسب متخذ القرار عند حسم ملف معيّن، علاوة على عرض الآفاق والتوقعات المستقبلية بشكل علمي للرأي العام بعيداً عن الشعبوية. فباستثناء التقرير الأسبوعي لشركة الشال للاستشارات - وهو جهد غير ربحي يناقش القضايا المالية والاقتصادية ذات الارتباطات المحلية والإقليمية والدولية - فإن القطاعين العام والخاص في الكويت يفتقران بشكل كبير لأي أبحاث منتظمة تتولى دراسة المخاطر والتحديات، التي تواجه البلاد ومستقبلها واستدامتها، وربما يكون إجمالي ما تنفقه الكويت من ناتجها المحلي الإجمالي مقارنة بمستهدفاتها في الخطط التنموية مؤشراً على محدودية الاهتمام بالبحث العلمي ومستوى مهنيته. سوق خامل
فالكويت خلال 10 سنوات ماضية أنفقت في أفضل الأحوال (عام 2013) ما يناهز 0.1 بالمئة من الناتج المحلي على بنود البحث العلمي - بغضّ النظر عن جودة الإنفاق ونتائجه المهنية - في حين المستهدف في خطط التنمية الحكومية محدد بـ 1 بالمئة من الناتج المحلي، مما يعني أننا ننفق في أفضل الأحوال 10 بالمئة من المستهدف، وهي نسبة لا تناسب وجود مؤسسات حكومية وشبه حكومية عديدة، أصل وجودها وأهميتها يكمنان في الإنتاج البحثي والعلمي، كمعهد الكويت للأبحاث العلمية، ومؤسسة التقدم العلمي، وجامعة الكويت، والهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، ووزارة التربية، فضلا عن سوق «خامل» في القطاع الخاص.
وربما يتساءل البعض: كيف نجعل البحث العلمي أو بشكل أدق سوق الأبحاث من تقارير ودراسات وأبحاث واستقصاءات واستطلاعات مسألة مفيدة في رسم السياسات العامة في البلاد محلياً أو خارجياً؟ تحديات وجود
في الحقيقة، بما أن الهدف من البحث العلمي هو قراءة الواقع واستشراف المستقبل، فإن التحديات التي تواجه البلاد ومحيطها تحتاج إلى قراءات مهنية جادة تحتوي على العديد من الخيارات والاحتمالات، أي بمعنى أكثر تفصيلاً، فإنّ الكويت التي حررها من الغزو العراقي عام 1991 تحالف عالمي بقيادة الولايات المتحدة، من واجبها اليوم أن تدرس تحولات النظام السياسي العالمي مع مزاحمة الصين وروسيا لأميركا في مشهد التأثير الدولي والإقليمي، وتناقض مصالح هذه الدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن بروز النزعات اليمينية، لاسيما في أميركا وأوروبا، وما يمكن أن ينعكس سلباً على مفاهيم السلام والديموقراطية، وهي تطورات (بنظرة متحفظة أو حتى تشاؤمية) قد تفضي إلى تزايد التحديات الأمنية والجيوسياسية، بل وحتى الوجودية للبلاد، وصولاً إلى دراسة أثر التحولات التي طرأت على دول مجلس التعاون الخليجي، الحليف الأساسي والأول خلال الغزو ومدى إمكانية أن تؤثر الخلافات على مسيرته أو الإخفاقات في أدائه على كفاءته أو تضامنه بعد 33 عاماً من الغزو. تهديدات ومصالح
بل إن ما شهدته الكويت خلال الأشهر الماضية من تهديدات وضغوط بشأن مشاريعها الاستراتيجية الكبرى كميناء مبارك الكبير أو حقل الدرة، لا شك في أنه يتطلب فهماً أعمق لطبيعة اتخاذ القرار وأوزان مراكز القوى في كل من العراق - الذي غزانا قبل 33 عاماً - وإيران والتبعات المرتبة على التحديات المستجدة ليس فقط في أبعادها الاقتصادية أو التجارية، بل أيضاً في إعادة تقييم «الدبلوماسية الكويتية» خلال سنوات ماضية في جدوى تحقيقها مصالح البلاد العليا. فمثلاً، على صعيد ميناء مبارك كمشروع دولة استراتيجي، لا توجد لدينا دراسة بحثية واحدة تعطي توقعات بشأن جدوى تشغيل الميناء بالتوازي مع تشغيل العراق لميناء الفاو وأثره على خطط التبادل التجاري بين البلدين، أو استخدام العراق كمحطة لنقل البضائع الواردة من آسيا إلى أوروبا الشرقية، فضلا عن التحديات والتهديدات التي تعوق إنتاج «حقل الدرّة» للغاز وكيفية التعامل معها... فهذه الملفات جديرة بأن تكون منطلقاً لتدفق الأبحاث والدراسات مختلفة الرؤى والاحتمالات لتكون أمام متخذي القرار في البلاد وأيضاً أمام الرأي العام. ماهية الشعبوية
بل حتى في المسائل الاقتصادية المحلية، ربما تقدم الأبحاث والدراسات مخرجاً من العديد من الملفات المرهقة للمالية العامة، فلا يوجد مَن يحلل بعض الفرضيات التي قد تنقذ الدولة من صرف مليارات الدنانير بلا عائد اقتصادي لها، فمثلاً كيف يمكن أن نفهم سقوط أبرز مرشحي المطالبات المالية من شراء الدولة للقروض وبيع الإجازات أو تراجع شعبيتهم بحدة في الانتخابات الماضية، إن كان أمراً يعبّر حقاً عن اتجاهات الرأي العام أم نتيجة مجرد تكتيكات انتخابية؟ وهل تعدّ الأولوية في مجتمع أكثر من ثلثيه من مواليد ما بعد الغزو العراقي زيادة رواتب المتقاعدين أم تحسين بيئة الأعمال للشباب على سبيل المثال؟ فإخضاع هذه الفرضيات وغيرها للبحث العلمي ربما يجنّب البلاد أوهاماً شعبوية تترتب عليها التزامات مالية متراكمة للدولة لسنوات قادمة. والحديث عن تحديد الشعبوية ووزنها في اختيارات الناخبين ممكن أن يفتح الباب لبحوث أوسع عن الجيل الأصغر سناً كمواليد الألفية، أو ما يطلق عليه عالمياً gen z بدراسة اهتماماتهم تجاه سوق العمل أو التضخم أو التعليم أو الأسرة أو الخدمات الإسكانية أو التكنولوجية أو المالية ومفاهيم البيئة والاستدامة، فهم يعبّرون عن جيل مختلف وقاعدة عريضة لها سلوكها ومفاهيمها وقيمها، وبالتالي على الأرجح لها نظرتها لواقع البلاد واحتياجاتها المختلفة عن الأجيال السابقة. ضرورة... لا ترف
لسنا في معرض سرد الأمثلة حول القضايا التي قد يغطيها سوق الأبحاث المفقود في الكويت، فطبيعة الحياة هي المستجد من القضايا والتحديات، والبحث العلمي بكل ما فيه من دراسات واستقصاءات واستطلاعات يعطي متخذ القرار أرضية مناسبة من المعلومات والخيارات الخاصة بمستقبل البلاد ومصالحها واقتصادها، بما فيها من إيجابيات وسلبيات ومزايا ومخاطر، بالتالي، فإن العمل على تنمية سوق الأبحاث ورفع مهنيته في مختلف القطاعات الأكاديمية أو الحكومية أو الخاصة أو المستقلة الربحية منها وغير الربحية هو ضرورة وليس ترفاً أو مبالغة.
فالكويت خلال 10 سنوات ماضية أنفقت في أفضل الأحوال (عام 2013) ما يناهز 0.1 بالمئة من الناتج المحلي على بنود البحث العلمي - بغضّ النظر عن جودة الإنفاق ونتائجه المهنية - في حين المستهدف في خطط التنمية الحكومية محدد بـ 1 بالمئة من الناتج المحلي، مما يعني أننا ننفق في أفضل الأحوال 10 بالمئة من المستهدف، وهي نسبة لا تناسب وجود مؤسسات حكومية وشبه حكومية عديدة، أصل وجودها وأهميتها يكمنان في الإنتاج البحثي والعلمي، كمعهد الكويت للأبحاث العلمية، ومؤسسة التقدم العلمي، وجامعة الكويت، والهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، ووزارة التربية، فضلا عن سوق «خامل» في القطاع الخاص.
وربما يتساءل البعض: كيف نجعل البحث العلمي أو بشكل أدق سوق الأبحاث من تقارير ودراسات وأبحاث واستقصاءات واستطلاعات مسألة مفيدة في رسم السياسات العامة في البلاد محلياً أو خارجياً؟ تحديات وجود
في الحقيقة، بما أن الهدف من البحث العلمي هو قراءة الواقع واستشراف المستقبل، فإن التحديات التي تواجه البلاد ومحيطها تحتاج إلى قراءات مهنية جادة تحتوي على العديد من الخيارات والاحتمالات، أي بمعنى أكثر تفصيلاً، فإنّ الكويت التي حررها من الغزو العراقي عام 1991 تحالف عالمي بقيادة الولايات المتحدة، من واجبها اليوم أن تدرس تحولات النظام السياسي العالمي مع مزاحمة الصين وروسيا لأميركا في مشهد التأثير الدولي والإقليمي، وتناقض مصالح هذه الدول الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن بروز النزعات اليمينية، لاسيما في أميركا وأوروبا، وما يمكن أن ينعكس سلباً على مفاهيم السلام والديموقراطية، وهي تطورات (بنظرة متحفظة أو حتى تشاؤمية) قد تفضي إلى تزايد التحديات الأمنية والجيوسياسية، بل وحتى الوجودية للبلاد، وصولاً إلى دراسة أثر التحولات التي طرأت على دول مجلس التعاون الخليجي، الحليف الأساسي والأول خلال الغزو ومدى إمكانية أن تؤثر الخلافات على مسيرته أو الإخفاقات في أدائه على كفاءته أو تضامنه بعد 33 عاماً من الغزو. تهديدات ومصالح
بل إن ما شهدته الكويت خلال الأشهر الماضية من تهديدات وضغوط بشأن مشاريعها الاستراتيجية الكبرى كميناء مبارك الكبير أو حقل الدرة، لا شك في أنه يتطلب فهماً أعمق لطبيعة اتخاذ القرار وأوزان مراكز القوى في كل من العراق - الذي غزانا قبل 33 عاماً - وإيران والتبعات المرتبة على التحديات المستجدة ليس فقط في أبعادها الاقتصادية أو التجارية، بل أيضاً في إعادة تقييم «الدبلوماسية الكويتية» خلال سنوات ماضية في جدوى تحقيقها مصالح البلاد العليا. فمثلاً، على صعيد ميناء مبارك كمشروع دولة استراتيجي، لا توجد لدينا دراسة بحثية واحدة تعطي توقعات بشأن جدوى تشغيل الميناء بالتوازي مع تشغيل العراق لميناء الفاو وأثره على خطط التبادل التجاري بين البلدين، أو استخدام العراق كمحطة لنقل البضائع الواردة من آسيا إلى أوروبا الشرقية، فضلا عن التحديات والتهديدات التي تعوق إنتاج «حقل الدرّة» للغاز وكيفية التعامل معها... فهذه الملفات جديرة بأن تكون منطلقاً لتدفق الأبحاث والدراسات مختلفة الرؤى والاحتمالات لتكون أمام متخذي القرار في البلاد وأيضاً أمام الرأي العام. ماهية الشعبوية
بل حتى في المسائل الاقتصادية المحلية، ربما تقدم الأبحاث والدراسات مخرجاً من العديد من الملفات المرهقة للمالية العامة، فلا يوجد مَن يحلل بعض الفرضيات التي قد تنقذ الدولة من صرف مليارات الدنانير بلا عائد اقتصادي لها، فمثلاً كيف يمكن أن نفهم سقوط أبرز مرشحي المطالبات المالية من شراء الدولة للقروض وبيع الإجازات أو تراجع شعبيتهم بحدة في الانتخابات الماضية، إن كان أمراً يعبّر حقاً عن اتجاهات الرأي العام أم نتيجة مجرد تكتيكات انتخابية؟ وهل تعدّ الأولوية في مجتمع أكثر من ثلثيه من مواليد ما بعد الغزو العراقي زيادة رواتب المتقاعدين أم تحسين بيئة الأعمال للشباب على سبيل المثال؟ فإخضاع هذه الفرضيات وغيرها للبحث العلمي ربما يجنّب البلاد أوهاماً شعبوية تترتب عليها التزامات مالية متراكمة للدولة لسنوات قادمة. والحديث عن تحديد الشعبوية ووزنها في اختيارات الناخبين ممكن أن يفتح الباب لبحوث أوسع عن الجيل الأصغر سناً كمواليد الألفية، أو ما يطلق عليه عالمياً gen z بدراسة اهتماماتهم تجاه سوق العمل أو التضخم أو التعليم أو الأسرة أو الخدمات الإسكانية أو التكنولوجية أو المالية ومفاهيم البيئة والاستدامة، فهم يعبّرون عن جيل مختلف وقاعدة عريضة لها سلوكها ومفاهيمها وقيمها، وبالتالي على الأرجح لها نظرتها لواقع البلاد واحتياجاتها المختلفة عن الأجيال السابقة. ضرورة... لا ترف
لسنا في معرض سرد الأمثلة حول القضايا التي قد يغطيها سوق الأبحاث المفقود في الكويت، فطبيعة الحياة هي المستجد من القضايا والتحديات، والبحث العلمي بكل ما فيه من دراسات واستقصاءات واستطلاعات يعطي متخذ القرار أرضية مناسبة من المعلومات والخيارات الخاصة بمستقبل البلاد ومصالحها واقتصادها، بما فيها من إيجابيات وسلبيات ومزايا ومخاطر، بالتالي، فإن العمل على تنمية سوق الأبحاث ورفع مهنيته في مختلف القطاعات الأكاديمية أو الحكومية أو الخاصة أو المستقلة الربحية منها وغير الربحية هو ضرورة وليس ترفاً أو مبالغة.