الحرب العالمية الثالثة... واقع أم تكهّن؟
ما زال «طوفان الأقصى» في صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي، وما زالت التكهنات والمؤشرات مطروحة على بساط النقاش بشأن الخشية من اندلاع حرب إقليمية واسعة قد تتسبب بأي لحظة في تأجيج حرب كونية ثالثة صار اندلاعها شبه مؤكد عند بعض النخب العربية والأجنبية!
المسألة في هذا الخصوص أكثر تعقيداً من طرحها على سبيل الحماسة حيناً أو التكهن والتحليل أحياناً أخرى، فهي محكومة بعدة اعتبارات متداخلة ومتناقضة.
قد يتوسع نطاق الحصار الاقتصادي وعقوباته الموجعة ليشمل عدة دول وأحلاف وقد نستفيق يوماً على تعطيل ممنهج للإنترنت
بالمنطق النظري التحليلي، هناك العديد من العوامل التي تؤدي إلى عدم استبعاد حرب عالمية ثالثة أو حرب واسعة النطاق على الأقل، ومن أبرز هذه العوامل:
• تأكيد المتخصصين على أن معظم الحروب الكبرى في التاريخ البشري لم تستعر بقرار جازم أو تخطيط حاسم، بل بانزلاق تدريجي للأطراف في وحولها، وبالتالي قد يرى البعض أن استمرار الويلات وفظاعة الانتهاكات الإسرائيلية في غزّة مع إصرار جيش العدو على إنهاء أو إنهاك حركة حماس، قد يدفع المحور المؤيد للحركة الى توسيع رقعة النزاع مما يخشى معه انزلاق الإقليم، وربما العالم، الى حرب أو معارك شاملة وأوسع نطاقاً.
• من جانب آخر، يخشى بعض المحللين من أن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية دون حل دبلوماسي قد يؤدي الى تمددها لتشمل دولاً أوروبية أخرى مما قد يشعل فتيل المواجهة المباشرة بين روسيا والغرب، ويؤدي ربما الى تدخل صيني أميركي أكثر وضوحاً وشراسة، وبخاصة أن السنوات الأخيرة شهدت تزايداً في التوتر بين الولايات المتحدة والصين.
• عدم استقرار الوضع الأمني وهشاشة البنية الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط، مع وجود طموحات ومصالح متناقضة لدى الدول المنتجة للنفط والطاقة من جهة، والدول المحيطة بالعالم العربي من قوميات أخرى كتركيا وايران والكيان الصهيوني، من جهة أخرى، الأمر الذي لديه بلا شك امتدادات وارتدادات دولية أبعد من حدود الإقليم.
• تأثر الاقتصاد العالمي سلباً نتيجة جائحة كورونا وما تبعها من أزمات عالمية في أمن الطاقة والأمن الغذائي، الأمر الذي ثبت تاريخياً أنه يولّد انفجاراً كبيراً أو سلسلة انفجارات متلاحقة أو متزامنة تطيح بالاستقرار والسلام العالميين.
• وجود ضغوط دائمة من كبار مصنعي الأسلحة- دولاً وشركات- على أصحاب القرار السياسي لتأجيج الصراعات التي تنعش المبيعات الحربية.
• رغم اختلاف زماننا عن الزمن الذي كان فيه الخلاف الأيديولوجي مسبباً رئيساً للنزاعات الكبرى ومؤججاً للصراعات الدامية، لا يمكن راهناً تجاهل العنصرية الدينية والعرقية التي ما زالت متجذرة في فكر ووجدان واضعي السياسات والمنظرين المؤثرين، مما يؤثر بشكل جليّ على استراتيجيات السيطرة وخطط الإلغاء.
بالمقابل، هناك العديد من العوامل الجدّية والمنطقية التي تقودنا إلى استبعاد تورط دول المنطقة والعالم في حروب واسعة النطاق أو في حرب عالمية ثالثة، ونذكر من ذلك:
• وجود ترسانة عالمية مخيفة من الصواريخ العابرة للقارات والأسلحة الفتاكة والنووية، مما يردع جميع الأطراف المعنية عن فكرة المخاطرة والمقامرة الكارثية بالدخول في أي حرب لا تُبقي ولا تذر.
• إن التهور والحماسة غير المحسوبة اللذين كانا من صفات مشعلي الحروب العالميتين الأولى والثانية، ومن أبرز سمات قادتها والمشاركون فيها، لا يجدان لهما مثالاً واضحاً في عالمنا المعاصر، فكل الحزم والقوة والشجاعة التي يمكن أن تنسب للدب الروسي مثلاً لم تمكنه في حربه ضد الغرب من اتخاذ القرار الحاسم باستخدام أسلحة غير تقليدية قد تثير العالم ضده وتبرر أكثر للدول الأخرى مواجهته المباشرة.
• العولمة الاقتصادية، أو بتعبير آخر المصالح الاقتصادية المشتركة بين الدول الكبرى، حيث على سبيل المثال أظهرت البيانات الرسمية الأميركية الصادرة في العام الفائت أن حجم التجارة بين الولايات المتحدة والصين سجل رقماً قياسياً بلغ 690.6 مليار دولار أميركي، مما يجعل كفة المصالح الاقتصادية راجحة على كفة التأزيم العسكري.
• ارتكاز الاقتصاد العالمي على الطاقة، واعتماد الاستقرار السياسي على الرفاهية الاقتصادية، مما يجعل أي ارتفاع في أسعار النفط والغاز وأي اضطراب في سلاسل التوريد العالمية، نتيجة الحروب الكبرى، كارثياً على المجتمعات والمنظومات السياسية الحاكمة، خصوصا في البلدان الغربية والصناعية.
• الدور الفاعل للإعلام المعاصر- بوسائله التقليدية والإلكترونية الحديثة- في نقل الأحداث وكشف المخططات وتسليط الضوء على الانتهاكات والمجازر وخروقات القانون الدولي، مما يسهم- على الأقل نظرياً- في تأليب الرأي العالمي وتوسيع رقعة الوعي الجماعي من مخاطر المشاركة في الحروب، الأمر الذي يختلف عمّا كان عليه الوضع في الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث كانت الخطابات الجماهيرية والدعاية الحزبية تقود الرأي العام نحو الانجرار الى أتون الحروب وتخفي عنه حقيقة مخاطرها وويلاتها الآنية والمستقبلية.
• وجود دور- ولو خجول نسبياً- لهيئة الأمم المتحدة والمنظمات المنبثقة عنها في التذكير بموجبات السلام العالمي وردع المعتدين- من غير أصحاب حق الفيتو طبعاً!- مما قد يسهم في إخماد أولى شرارات الحرب الكبرى، الأمر الذي لا يبقى قابلاً للتطبيق في حال توسع مساحة وحدّة النزاعات المسلحة.
• عدم وجود نية فعلية ولا إمكانية حقيقة لدى الأطراف الفاعلة في المناطق الأكثر حساسية في العالم للدخول في حرب كبرى، ولا حتى حروب صغرى، وهذا ما ينطبق على بؤر النزاع الأميركي-الصيني في شرق آسيا، وعلى منطقة الشرق الأوسط التي ألف أهله والعالم منذ عقود التهديدات الإيرانية للـ«الشيطان الأكبر» و«ربيبته إسرائيل» دون أن يبلغ الأمر، ولا أي مرة، حد المواجهة المباشرة الفعلية.
خلاصة القول، إن القضية الفلسطينية، و«فيضان الأقصى»، وكل الملفات الشائكة العالقة في العالم، وكل المناصرة- الصادقة أو الشعبوية- للقضايا الإنسانية المحقّة، ومهما كانت مؤثرة في الوجدان العربي والإنساني بشكل عام، من غير المتوقع أن تؤدي في عصرنا الحالي الى حروب كبرى تتخطى حدود المناطق الملتهبة، وهذا لا ينفي توسّع رقعة وحجم التعاطف معها، كما لا ينفي إمكانية تحوّل النزاعات العالمية في عصرنا من حروب تقليدية دامية الى صراعات اقتصادية قاتلة وحروب الكترونية شاملة، اذ قد يتوسع نطاق الحصار الاقتصادي وعقوباته الموجعة ليشمل عدة دول وأحلاف، وقد نستفيق يوماً على تعطيل ممنهج ومقصود لشبكة الإنترنت العالمية لمدة طويلة مما يؤثر سلباً في يوميات كل سكان الأرض ويربك المجتمعات والدول، الأمر الذي قد يترافق مع هجوم سيبراني واسع النطاق ومؤثر التداعيات والنتائج.
* كاتب ومستشار قانوني