رددنا مع تلك الفلسطينية التي رسم الزمن أوجاعه على وجهها، «شدوا بعضكم»، ورحنا نتصور أنها تغني لأهلنا في فلسطين، في حين أن ما لم ندركه هو أنها كانت بعينيها الثاقبتين تقول للبشرية وأولهم جيران فلسطين في الأرض والجغرافيا والتاريخ واللغة والحضارة، نعم فلسطين الحضارة التي لا ولن يعرفها الصهيوني المحتل مهما طال اغتصابه للأرض والسماء والشجر والهواء إلا أنه لن ينال من حضارتها.

نعود للعجوز الفلسطينية التي طالبتنا بأن نشد بعضنا، ولم نفهم منذ اليوم الأول من الطوفان بل قبل قبله، تصورنا أنها الهادئة والخاصة جدا تطالب الفلسطيني والفلسطينية أن يلتفوا حول بعضهم، وأن يقفوا معا في وجه الصهيوني الذي يقاتل من بعيد خوفا من تلك القوة المدفونة في نظرة كل فلسطيني من الطفل إلى الشاب والشابة والكهلة، خوفا من نظرتهم قبل بندقيتهم وقناعاتهم وإيمانهم بأرضهم وشعبهم ووطن لم ولن تغيب عنه الشمس الحرة مثله.

Ad

هي كانت حتماً لا تقصدهم فهم حقيقة وعلى مدى أكثر من شهر «شادين» بعضهم بل أكثر هم في كل يوم يلقنون العالم درساً في التكاتف والتعاضد والتضحية من أجل الوطن والآخر وفي القيم والأخلاق الحاضرة من تاريخ هم الأكثر أحقية بأن يدخلوه بوجوههم الباسمة وضحكتهم وحبهم للحياة حتى وهم يفترشون قطعة من القماش المتبقي من قصف «قنابل الذكية»، ويغمسون رغيف خبزته أمهاتهم بعرقها ودمعها، في بعض زعتر ينبت من تحت الأنقاض بل يقاوم هو وشجر الزيتون كما يقاوم الفلسطيني والفلسطينية.

هي كانت تريد أن تقول لنا ربما أن عليكم أن تتعلموا منهم بل منها وكل الفلسطينيين كم هو مهم أن «تشدوا بعضكم»، وربما تعضوا على الجراح والآلام الممتدة على مدى سنين وسنين أبعد بكثير من وعد ذاك البريطاني المستعمر بلفور بل قبل قبله، قالت عيناها كثيراً مما قالته كلمات أغنيتها التراثية، أما تعابير وجهها فرسمت فيها أوجاع درب المجازر والتهجير واللجوء والفقدان والتعب والحزن، كلها رسمت خطوطا واضحة على وجه تلك السيدة كما كثير من عيون ووجوه الأطفال والنساء والرجال في غزة.

بالتأكيد كان أطفال غزة هم أبطال هذه المعركة يقفون خلف المقاومين الصابرين أولئك الذين يكرر الإعلام الصهيوني وسمهم بصفات تبدأ بـ«الارهابيين» ولا تتوقف عند «القتلة» فيما أثبتوا هم بشهادات من تم الإفراج عنهم من الصهاينة أنهم أكثر إنسانية ورحمة، ولأنهم كذلك فقد تقدموا الصفوف للدفاع عن إنسانيتنا جميعا، هم ورفاقهم في لبنان الذين حملوا أكفانهم على أيديهم وراحوا يواجهون الكون برواية الحق في حين ينشر إعلامهم كل روايات الباطل والكذب، إعلامهم المتآمر حتما على الحق والمتحالف مع الظلم حتى لو لوّن ذلك بصيغ من الكلمات الرنانة والألفاظ والعبارات وما يحب بعضهم تسميته «لغة العقل»، إعلامهم ليس «سكاي نيوز» و«فوكس» و«سي ان ان» و«بي بي سي» و«نيويورك تايمز» و«الإندبندنت» و«الغارديان» فقط، بل كثير من الإعلام بأسماء عربية في باطنها أكثر صهيونية من كل أولئك، هكذا كشفت غزة والفلسطينيون، هكذا أسقطوا الأقنعة المتوارية والمتخفية حول كثير من النفاق والكذب والمشاريع التي تحاك في الغرف المعتمة ككل سياساتهم التي تصاغ في العتمة بعيداً عن شعوبهم وناسهم.

نعود لها وهي تقول «شدوا بعضكم» ونريد أن نسمعها تقول: «شدوا بعضكم يا أهل الحق في وجه الظلم وتعلموا منهم، من أهل فلسطين كيف يكون الدفاع عن الحرية والعدل مكلفاً دما وحزنا ودمارا على مد البصر لكنه في نهاية الأمر ممركم لتحرير أنفسكم جميعا من الظلم، بل من كل أنماط الكذب والعيش دون كرامة»، أطفال فلسطين يرددون في وجوهنا كلما انتقلنا بين صورهم وفيديوهاتهم، يقولون وأطرافهم بترتها صواريخهم القادمة من بعيد، سنبقى هنا وهذه الأرض لنا والشمس والبحر والهواء لنا وكل فلسطين لنا فماذا عنكم أنتم؟ هل ستشدون بعضكم وتقاومون مثلنا؟ شدوا بعضكم يا أهل الحق شدوا بعضكم.

*ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.