ما قل ودل: لحظة الحقيقة التي غابت عن الإعلاميين العرب من حكماء صهيون
كتب جمال زايدة منذ سنوات في تأملاته السياسية على صفحة «الأهرام» في أحد الاعتداءات التي كانت تقع على غزة وعلى الضفة بين الحين والحين، كان هذا المقال بين أوراقي التي جمعتها في ملف فلسطين لا أعلم في أي اعتداء كُتبت، ولكن ما أصدقه في هذه الأيام التي نعيشها.
كتب تحت عنوان «نعم نحن نبكي فلسطين» استهلها بكلمات «ما حدث في غزة وما حدث في الضفة»، واستطرد ليقول فيها: «لا يصح على الإطلاق تغذية تيار الشماتة بسبب «حماس»، فمصر هي الشقيقة الكبرى التي ينبغي أن تقف بجوار الشعب الفلسطيني، ينبغي أن تقف إلى جواره في تلك اللحظات الحرجة، أتمنى أن أرى الأطباء المصريين وأطقم التمريض وغرف العمليات المركزة المصرية المتنقلة في غزة تحاول إنقاذ المصابين وتلملم جراح أطفال ونساء غزة... هذه لحظة الحقيقة».
لحظة صدق مع النفس
إن دور مصر قلب العروبة النابض بالحياة كان دائما وأبداً، وسيظل كذلك نصيراً للقضية الفلسطينية، تناضل دائماً من أجل الحق العربي، من أجل الأمة العربية، ومن أجل ترابها وتراثها، من أجل تحرير كل شبر في الأرض العربية من الجزائر إلى تونس إلى عدن، ومع حركات التحرير في إفريقيا وفي آسيا وفي أميركا اللاتينية.
أكتب هذه الكلمات لمن يمتطون خيول الشماتة بـ«حماس» من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، وقد كان «طوفانها الأقصى» يرد لنا كرامتنا وعزتنا وإنسانيتنا التي أهدرها عار هذا الزمن الرديء، وأمتنا العربية قد أضناها الانقسام والتشرذم والهرولة وراء التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
بعض حكماء الإعلاميين العرب يشنون حرباً نفسية على فلسطين وهي أشد وأنكى من حرب إسرائيل على غزة
وأوجه إلى هؤلاء الإعلاميين سؤالاً مشروعاً هو: ما البديل غير المقاومة، وقد غابت القضية الفلسطينية عن ساحة العمل السياسي العربي وعن مسرح السياسة العالمية كلها، وأصبح الشعب الفلسطيني نسياً منسياً، وقد غابت هذه القضية حتى عن المزايدات السياسية للحكام العرب، وقد زاغ بصر العالم كله عنها، وشاح الضمير الإنساني بوجهه عنها؟ فالعالم لا يقف إلا مع الأقوياء و«طوفان الأقصى» كان قبساً من النور وشعاعاً في ظلمة الليل البهيم الذي نعيشه، شعاعاً أعمى أبصار الجيش الذي لا يُقهر وأسقط جبروته وغطرسته وهيبة الترسانة العسكرية العالمية التي تحرس وتحمي العدو الإسرائيلي، وأصبح «طوفان الأقصى» بصمود غزة الأعلى قدراً والأجل خطراً والأعز مكاناً والأعظم شأناً والأشرف ذكراً في هبة شعوب العالم كله وهي تحمل علم فلسطين وتصيح صيحة واحدة Palestine will be free (فلسطين يجب أن تكون حرة).
بل عبرة وتذكير
كان حل الدولتين قد أصبح سراباً وكانت إسرائيل قد ازدادت صلفاً وغطرسة وتعنتاً، وقد غاب عن المشهد السياسي زعامات في العالم العربي كان لها وزنها السياسي والإقليمي من ملوك ورؤساء، كما غاب عن هذا المشهد كذلك الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد دول أوروبا الشرقية، وانفتاحها على المعسكر الأميركي الداعم لإسرائيل، وغاب دور منظمة التحرير الفلسطينية، وانعدم تأثيرها في مجرى الأحداث بعد رحيل ياسر عرفات، وبعد الانتخابات البرلمانية في غزة التي فازت بها «حماس» في فبراير 2006، وكان دور مصر العربي– الفلسطيني قد بدأ يتلاشى، ولم تعد العلاقات مع المقاومة الفلسطينية على ما كانت عليه بسبب الانقسام الفلسطيني– الفلسطيني، بسبب الصبغة الإسلامية لهذه المقاومة، حيث أصبحت هذه المقاومة ذات صبغة إسلامية بقيادة حماس، وهي كلمة اختصار لحركة المقاومة الإسلامية التي تعتبر جزءاً من حركة النهضة الإسلامية التي تهدف الى تحرير كل الأراضي الفلسطينية لعدم اعترافها أصلاً وأساساً بقيام دولة فلسطين كدولة محتلة، بل يجب تحرير الأرض الفلسطينية كلها من احتلالها، وهو ما يتعارض مع اتفاقية «كامب ديفيد»، وكانت «حماس» ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين التي تعتبر فلسطين دولة محتلة يجب تحرير أرضها كلها من الاحتلال.
وهو ما يتعارض مع اتفاقية «كامب ديفيد» التي قيدت حرية مصر وحركتها، وفرضت عليها التزامات دولية لا تستطيع الفكاك منها، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية– الفلسطينية التي نشبت سنة 75 قد كسرت ظهر المقاومة الفلسطينية في لبنان برحيلها عن لبنان الذي كان قاعدة انطلاقها.
وكانت مفاوضات السلام مع العدو الإسرائيلي قد وصلت الى طريق مسدود سواء في واشنطن أو في مدريد على امتداد عقود من الزمن لم يكن من هدف لإسرائيل فيها سوى مزيد من الاستيطان الإسرائيلي للأرض المحتلة، وبما لا يترك بعد ذلك أرضا فلسطينية يمكن التفاوض عليها، كما كان لعامل التطبيع الذي أصبحت تتصارع فيه دول عربية كانت ضد هذا التطبيع أصلا وأساسا مثل دول الخليج التي ليس لها حدود أصلا مع إسرائيل تلبية للضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية على هذه الدول، وخصوصا في عهد ترامب الذي وصل فيه هذا الضغط الى أقصى مداه، خصوصا بعد أن كشف ترامب عن الوجه القبيح لأميركا في النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.
وزاد الأمر سوءاً ما أفرزته الانتخابات الأخيرة للكنيست ما فاز به اليمين المتطرف في إسرائيل من مقاعد في الكنيست فضلاً عن النصر الذي حققه حزب الليكود واليمين على حزب العمل، وأدى الى تشكيل حكومة ائتلافية برئاسة نتنياهو ليقتحم وزراء هذه الحكومة ولأول مرة باحة المسجد الأقصى، ويدنسوا أرضه مع المستوطنين الإسرائيليين.
لقد قرأ ثوار الأقصى هذه الأحداث كما لم يقرأها حكماء الإعلاميين العرب الذين يشنون هذه الحرب النفسية على فلسطين، وهي أشد وأنكى من حرب إسرائيل على غزة، وفهمها ثوار الأقصى كما لم يفهمها هؤلاء الحكماء فشنوا طوفانهم المقدس على قوات الاحتلال، وقد أغلقت هذه الأحداث أبوابها أمام كل أمل في الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بل حقه في الحياة، والقضية الفلسطينية تنحدر من قاع الى قاع الى هوة سحيقة لا قدر الله.
لقد كان فرسان هذا الطوفان أكثر منكم فهماً وأعمق منكم فكراً في اختيار هذا التوقيت لبعث الحياة في قضيتهم.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.