بقايا خيال: الكويت بلاد العرب
من لا يعرف الكويت جيداً يعتقد أن كويتنا وأهلها الحقيقيين يبالغون في التعبير عن عروبتهم، ومن لم يعش بيننا لسنوات، ومن لم يختلط بالكويتيين يفسر مواقف الكويت الراسخة تجاه القضايا العربية في المحافل الدولية، وكأن هذه الدولة الصغيرة في كل شيء، في حجمها وسكانها، ترى نفسها دولة عظمى.
ثم يقارنون الكويت بشقيقاتها العربيات التي طبّعت مع الكيان الصهيوني، ويستغربون «شذوذ المواقف السياسية» لدولة الكويت التي لا تضاهي المطبعين لا مساحة ولا سكاناً، ولا أظنني مبالغاً إذا ما قلت إن «عرب الخارج» يشفقون علينا، لأنهم لا يعرفون أن المخلص لعروبته لا يمكن إلا أن يكون مخلصاً لقضاياه العربية، ولا يمكن أن يكون ضبابياً في مواقفه مهما كانت الظروف والأسباب.
تخيل أن فلسطينيي «ياسر عرفات» وقفوا ضد الحق الكويتي في التخلص من الاحتلال العراقي البغيض، ولا تمر إلا بضعة عقود من تحرير بلادنا من براثن الاحتلال الغاصب حتى عاد الكويتيون حكومة وشعباً، شيباً وشباناً ورجالاً ونساء، إلى سيرتهم العربية الأولى، وكأنها لم تُطْعَنْ بخنجر الأقربين، بل إن الكويت هي التي استمسكت بالعروة الوثقى، وهي التي تمسكت بمبادئها الأصيلة، وهي التي لم تخرج من ثوبها العربي حتى تعود إليه أصلاً، فمن أي معدن خلق الكويتيون؟ ومن أي عجين عجن أهل الكويت؟ أليست الكويت هي التي أنشأت الهيئة العامة للخليج والجنوب العربي منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، وقبل أن ينعم الكويتيون بخيرات بترولهم، لينطلقوا في طريق مساعدة الأشقاء في اليمن والإمارات المتصالحة من أجل نهوض أهلنا في التعليم والصحة؟ ألَمْ تُبْنَ هناك المدارس المزودة بمستلزمات التدريس من الكتب والدفاتر والوسائل التعليمية والمدرسين على نفقة الكويت؟ ألَمْ تُبْنَ هناك المستشفيات والمراكز الصحية بمعدات علاجية متطورة وأطباء وكوادر طبية لعلاج أشقائنا العرب بالمجان؟ فما الغريب في هذا المسلك؟ بل ما الجديد في قيام الكويت بأضعف إيمانها بواجباتها القومية؟
إن عشق العروبة لا يُدَرَّس بالمدارس، بل يُسْقَى من ماء الكويت، حتى لو كان طعمه «خَرِيْجْ» (فيه بعض الملوحة)، فهذا العشق متأصل حتى في عروق الأمي الذي يجهل القراءة والكتابة، فتراه متألماً لمصاب أَلَمَّ بأخيه العربي، أو مشاركاً بفرحة عربي لمناسبة سعيدة في دولة عربية، فها هي والدتي (يرحمها الله) تعود فرحة إلى البيت بعد أن تلقت العلاج اللازم عند الدكتور الراحل أحمد الخطيب، بعيادته مقابل مدرسة عائشة الابتدائية للبنات القريبة من شارع فهد السالم، لتخبرنا أن هناك زحمة غير اعتيادية أمام مدرسة المثنى الابتدائية للبنبن (مجمع المثنى حالياً)، موضحة أنه قيل لها إن موكب الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر سيمر من هناك.
فخرجنا، أنا وأشقائي، مسرعين لمشاهدة هذا الحدث التاريخي، فإذا بنا نكتشف أن سبب ذلك الازدحام ما هو إلا سباق للدراجات الهوائية أقامته مدارس الكويت، ولهذا أغلقت الإدارة العامة للشرطة والأمن العام شارع فهد السالم كجزء من مسار السباق، فكانت تلك الزحمة، ولولا تلقيننا الشفهي لمبادئ الأخوة العربية من المدرسين، ولولا تلك الجملة المعبرة (الكويت بلاد العرب) التي كانت تفيض صدقاً، فتصدرت المراسلات الرسمية وغير الرسمية منذ مطلع خمسينيات القرن المنصرم، ولولا أحاديثنا التي لم تكن تنتهي عن النضال العربي ضد الاستعمار، لما عرفنا عشقاً لكل ما هو عربي، ولما اهتمت والدتي الأمية بأهمية رؤية الزعيم العربي جمال عبدالناصر، وللحديث بقية.