• لم يعد معظم الناس يتحمّلون سماع كلمة «كوفيد». هم يمنعون التكلم عن الجائحة ويزعمون أنها انتهت. هل هم مخطئون؟

- لا. أنا أحمل المشاعر نفسها وأريد أن نمضي قدماً. لكنّ الجائحة لن تنتهي مطلقاً. سيلازمنا «كوفيد» إلى الأبد. لذا تُعتبر الدعوة إلى «التعايش معه» صحيحة. حتى أنني لا أظن أننا بلغنا مرحلة مستقرة بعد، بل العكس صحيح.

• ما الوضع الراهن؟
Ad


- شاهدنا ما حصل هنا في ألمانيا بعد مهرجان «أكتوبر فيست». وبدأ إيقاع انتقال العدوى في بريطانيا يرتفع بوتيرة سريعة أيضاً. أصبح شخص واحد من كل 35 في إنكلترا مصاباً بفيروس «كوفيد» الآن. إنها نسبة هائلة.

• ما السيناريو الذي تتوقعه خلال الخريف والشتاء؟

- دائماً كنتُ بارعاً في توقع السيناريوهات المرتبطة بجائحة «كوفيد»...

• هذا صحيح. كانت توقعاتك التشاؤمية خلال مقابلة في بداية العام 2020 دقيقة جداً للأسف.

- لكن لديّ توقعات أسوأ الآن. في تلك الفترة، وتحديداً في نهاية يناير (2020) كان الوضع أكثر بساطة. أشارت جميع الأعراض التحذيرية إلى انتشار الفيروس. كان الوباء جديداً، وكان عبارة عن عدوى تنفسية. تناقل البشر الفيروس ورُصِدت حالات من دون ظهور أي أعراض. إنه جزء بسيط من المسائل التي شغلت تفكيرنا. لم نكن مضطرين لجمع معلومات كثيرة للتأكد من خطورة الوضع وضرورة التحرك.

• هل يجب أن يشغل هذا الموضوع تفكيرنا حتى الآن؟

- نحن نعيش اليوم في عالم أكثر تعقيداً. بدأنا ندخل في مرحلة جديدة من الجائحة. تغيّرت مسألتان. أولاً، أصبحت هذه الفيروسات مُعدِية لدرجة أن تنتشر في المجتمعات بسبب العدوى الطبيعية أو اللقاحات أو الاثنين معاً، حتى أنها تسللت إلى شعوب مثل سكان بريطانيا، حيث تتجاوز معدلات المناعة عتبة التسعين في المئة. ثانياً، لم نعد نتعامل اليوم مع نوع طاغٍ واحد من الفيروس، بل مجموعة كاملة من المتحورات.

• هل يمكن إيجاد لقاح لهذه المجموعة الكاملة من المتحورات المختلفة؟

- يجب أن نخرج من هذا الوضع، وأظن أن الحل الوحيد يقضي بإنتاج اللقاحات.

• عن أي وضع تتكلم؟

- إذا لم نطوّر لقاحات قادرة على إعاقة نقل الفيروس وكبح المرض، فسنبقى عالقين في هذه الدوامة من المخاوف والنقاشات. لن يُفرَض إقفال تام بعد الآن لأن المجتمع لن يتقبّل هذا التدبير. لكن سيبقى التوتر سيّد الموقف: هل يجب أن نسمح باستمرار المهرجانات؟ هل نستطيع فتح المدارس بكل أمان بعد عطلة الخريف؟ هل يجب أن نضع الكمامات في وسائل النقل العامة؟
• عندما تُراجع كل ما حصل، ما هو أكبر خطأ في طريقة التعامل مع الجائحة؟

- يتعلق أكبر خطأ بعدم تعاملنا مع الفيروس بجدّية كافية في أول ستة أسابيع من عام 2020. كان منع تفشي الجائحة لا يزال ممكناً في تلك الفترة. اتّضح ما يحصل في ووهان منذ بداية شهر يناير. وبحلول نهاية ذلك الشهر، اتّضحت خطورة الوضع. لكن رغم شيوع هذه المعلومات، لم تتحرك بقية دول العالم قبل شهر مارس: مرّ شهران محوريان تمكّن فيهما الفيروس من الانتشار. سخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الفيروس، وظن الجميع في أوروبا، أو في بريطانيا على الأقل، أن المشكلة محصورة في الصين البعيدة، ولم يتغير شيء في شمال إيطاليا، فظن الناس أن الوضع لن يسوء كثيراً هناك. باختصار، ساد شكل من الغطرسة، فأقنعت الدول نفسها بأن شيئاً لن يصيبها.

• لكن حتى منظمة الصحة العالمية لم تتعامل بجدّية مع احتمال انتشار الفيروس عبر الهباء الجوي ولم تصدر تحذيراً بهذا الشأن قبل خريف عام 2020...؟

- هذا صحيح. إنه خطأ فادح. كنا نستطيع تحسين طريقة استعدادنا لما ينتظرنا لو صدرت قرارات كبرى حول الهباء الجوي، وأقنعة الوجه، وأفضل الخيارات العلاجية، ومعدات الوقاية الشخصية للممرضين والأطباء، وسعة وحدات العناية المركّزة. كانت هذه التدابير لتنقذ حياة عدد هائل من الناس.

• ما كانت أصعب لحظة مرّت عليك خلال أزمة كورونا؟

- شعرتُ بعجز شديد في سبتمبر 2020...

• ماذا حصل حينها؟

- لا شيء. لم يتغير الوضع. ارتفع عدد الإصابات مجدداً. كنا نعرف ما سيحصل، لكن لم يستغل السياسيون فترة الصيف لتحضير البلد للشتاء...

• حصل الأمر نفسه في ألمانيا...؟

- ومع ذلك، لم نتحرك قبل شهر ديسمبر. كنا نسير نحو المأساة وكأننا مخدّرون. وفي ديسمبر 2020، ثم في يناير وفبراير 2021، مات عدد كبير من الناس. سُجّل حوالي نصف حالات الوفاة المرتبطة بعدوى «كوفيد» في بريطانيا حتى تلك المرحلة في هذه الفترة الزمنية القصيرة.

• هل أثار هذا الوضع استياءك؟

- بل شعرتُ بالحزن. بعد كل ما مررنا به في مارس وجميع حالات الوفاة المسجلة، كان شهر سبتمبر قاتماً جداً بالنسبة لي، فقد كنا نعرف بحلول تلك المرحلة أننا سنحصل على لقاحات آمنة وفاعلة ويكفي أن نكسب بعض الوقت عبر فرض تدابير التباعد. كان يُفترض أن نتماسك بضعة أشهر إضافية. ما كان 90 ألف شخص ليموتوا حينها في بريطانيا وحدها حتى بداية مارس 2021.

• كنتَ تقدّم التوصيات إلى الحكومة البريطانية في تلك الفترة. بالعودة إلى تلك المرحلة، ما المسائل التي كنتَ تستطيع تحسينها؟

- شعرتُ حينها بأنني أبذل قصارى جهدي لإقناعهم بفرض تدابير أكثر صرامة لمكافحة كورونا. كان يُفترض أن أبذل جهوداً مضاعفة على الأرجح أو أقدم توصيات أكثر وضوحاً. لكن يستحيل ألا نتعثر بسبب المخاوف التي تطرحها هذه الأزمات، ويصعب أن نعلن ما نعتبره واقعاً مريراً بكل صراحة.

• هل يمكن أن تظهر جائحة أخرى بسبب فيروسات كورونا في المستقبل القريب؟ أم أن البشر اكتسبوا مناعة كافية الآن ضد هذه العائلة من الفيروسات؟

- لا أعرف الجواب للأسف. أظن أن احتمال ظهور جائحة جديدة بسبب فيروسات كورونا أصبح اليوم أقل مما كان عليه في عام 2019. لكن تنتشر مجموعة واسعة من فيروسات كورونا في عالم الحيوانات، ولا نعرف إلى أي حد أصبحت المناعة المتقاطعة ضد المتلازمة التنفسية الحادة 2 قوية. في مطلق الأحوال، يجب أن تبقى فيروسات كورونا في أعلى قائمة العوامل الوبائية المحتملة. • ما مسبب الأمراض الذي تعطيه الأولوية؟

- الإنفلونزا. لنتكلم مثلا عن إنفلونزا الطيور. إنه فيروس قاتل وخطير جداً، لكنه يصيب الطيور بشكلٍ أساسي ونادراً ما يصيب البشر. في عام 1997، تفشّت أول موجة كبرى في هونغ كونغ، ثم في فيتنام وأندونيسيا. في غضون ذلك، انتشر هذا الفيروس في أنحاء العالم. إذا صودف وأصيب حيوان أو إنسان بإنفلونزا الطيور وفيروس الإنفلونزا العادي في الوقت نفسه، قد تعيد إنفلونزا الطيور تجميع نفسها، فيتشكل مُسبب جديد للأمراض ويصبح مُعدياً بقدر الإنفلونزا العادية ومُضِراً بقدر إنفلونزا الطيور. حتى أن عدم حصول ذلك حتى الآن أمر لا يُصدّق.

• هل يُعقَل أن يحصل ذلك في أي لحظة؟

- في جميع الأحوال، من المتوقع أن تشتق الجائحة المقبلة من عالم الحيوان. في الوقت الراهن، نحن لا نملك مقاربة منهجية لفهم هذا المخزون الهائل من الفيروسات المتفشية وسط الحيوانات أو التحكم به. في بعض البلدان، يمنع الوضع السياسي تحقيق هذا الهدف. كذلك، سبق وتوسّع قطاع منظّم على نحو لامع لتجارة الحيوانات، في جميع القارات، وتساوي قيمته مليار دولار. لكنه يزيد مخاطر انتقال الفيروسات من الحيوانات إلى البشر.

• ماذا عن جدري القرود؟

- لا أظن أن فيروس جدري القرود قد يتحول إلى جائحة مثل كورونا في الوقت الراهن. لكن يثبت هذا الفيروس مدى خطورة تجاهل التفاعلات الحاصلة بين البشر والحيوانات. في آخر 15 سنة، حصل تغيّر سلس لكن مُوثّق في طبيعة هذا الفيروس في إفريقيا. في الحالات العادية، يلتقط المصابون بجدري القرود العدوى من القوارض. لكن في آخر 15 سنة، أصبحت سلاسل نقل العدوى أطول من أي وقت مضى.

• أصبح انتقال الفيروس من شخص إلى آخر أكثر شيوعاً اليوم...؟

- هذا الوضع يثبت أن الفيروس تكيّف مع البشر. سرعان ما انتشر من غرب إفريقيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية، ثم تسلل إلى مجتمعات الرجال الشواذ، ويمكن رصده الآن على الأرجح في جميع دول العالم.

• هل يمكن أن تتكرر المشكلة نفسها مع أي فيروسات من حيوانات أخرى؟

- ما يحصل اليوم ليس مجرّد صدفة. في عام 1999، بدأت هذه الظاهرة مع فيروس نيباه في ماليزيا. ثم ظهر السارس، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، والإيبولا في غرب إفريقيا، وزيكا في البرازيل، وأخيراً «كوفيد 19». ارتفع عدد سكان العالم، ويُسهّل العيش معاً في مساحات صغيرة داخل مدن كبيرة انتشار عدد كبير من الفيروسات. كذلك، بدأ الوضع يتغير على مستوى التفاعل بين البشر والحيوانات، ما يُسهّل انتقال الفيروسات إلينا. يبلغ عدد سكان العالم اليوم 8 مليارات نسمة، وبدأنا نوسّع مساكننا باتجاه الطبيعة، وبدأت الحيوانات تتجه إلى المدن. أخشى أننا أصبحنا في بداية عصر الأوبئة.

• في بداية عام 2020، شعرتَ بقلق شديد من تسرّب فيروس المتلازمة التنفسية الحادة 2 من معهد ووهان لعلم الفيروسات. في تلك الفترة، بلغ احتمال تسرّب الفيروس من المختبر بهذا الشكل %50 وفق تقديراتك، لكنك تعتبر فرضية المختبر مستبعدة جداً اليوم. لماذا؟

- عند نشر تسلسل فيروس المتلازمة التنفسية الحادة 2 في 10 يناير 2020، برزت خصائص معينة وبدت للوهلة الأولى غير مألوفة ومشبوهة. لكني أظن اليوم أن السبب الأساسي يتعلق بحجم معلوماتنا في تلك الفترة. سرعان ما تبيّن أن الخصائص التي بدت مقلقة في البداية موجودة في فيروسات طبيعية أخرى من نوع كورونا. نحن نلاحظ أيضاً أن نوع الفيروس البرّي في ووهان لم يكن قابلا للتكيف مع البشر في أي ظرف. في المقابل، يبدو متحور «أوميكرون» أكثر قدرة على التكيّف. باستثناء موقع التفشي في ووهان، لا شيء يثبت تسرّب الفيروس من المختبر. من وجهة نظري، يفوق احتمال انبثاق الفيروس من الحيوانات عتبة التسعين في المئة. • هل يمكنك أن تستبعد احتمال تسرب الفيروس من المختبر بالكامل؟

- لا، لا يمكنني فعل ذلك، لكني أخشى أن تبقى هذه المسألة مثيرة للجدل بعد مرور مئة سنة. كان يُفترض أن يكون الصينيون أكثر شفافية بشأن الأبحاث الحاصلة في معهد ووهان لعلم الفيروسات. من دون تعاونهم، لن نتمكن يوماً من اكتشاف الحقيقة. لكني أعتبر هذا الاحتمال غير واقعي في ظل الوضع السياسي الراهن. لمنع أي أوبئة مستقبلية إذاً أو رصدها في مرحلة مبكرة على الأقل، من الأفضل أن تُخصَّص أموال إضافية لإجراء الأبحاث حول طبيعة التفاعلات بين الحيوانات والبشر الآن.

• طوال فترة الجائحة، اتخذ النقاش حول اللقاحات وتدابير مكافحة كورونا منحىً عدائياً متزايداً. اليوم، يتراجع عدد الأشخاص المستعدين للتعاطف مع الأكثر ضعفاً. هل دمّرت الجائحة التضامن بين الناس؟

- هذا ما حصل للأسف. لكن لم تبدأ المشكلة مع «كوفيد»، بل بدأ هذا الشرخ بين الأغنياء والفقراء، وبين الأصحاء والمرضى، وبين أصحاب الامتيازات والمحرومين من الفرص، يتسلل إلى المجتمع منذ فترة. جاء «كوفيد» ليزيد الوضع سوءاً بكل بساطة.

• ما مدى خطورة ظاهرة «كوفيد طويل الأمد» برأيك؟

- أخشى أن ظاهرة «كوفيد طويل الأمد»، التي تترافق مع تعب مزمن وأعراض عصبية، ستبقى معنا لفترة طويلة. حتى أنها ستؤثر بشدة على حياة الكثيرين، لا سيما الشباب الذي يعجز عن التركيز أو العمل بسبب الإرهاق. يجب ألا ننسى أننا نتعامل مع هذه العدوى الجديدة منذ سنتين ونصف فقط، ولا نعرف بعد تداعيات «كوفيد» على الصحة النفسية، أو القلب، والرئتين، والكلى، والدماغ، على المدى الطويل. أُصيب على الأرجح حوالى 6 مليارات شخص بالعدوى في العالم. وحتى لو كان الفيروس يزيد خطر الإصابة بأمراض القلب، أو السكري، أو الخرف، بنسبة ضئيلة، يطرح هذا الوضع مشكلة كبرى على قطاع الصحة العامة.

• هل أُصبتَ أنتَ شخصياً بفيروس كورونا؟

لا، كما أنني متأكد من عدم التقاط العدوى من دون علمي. أنا أشارك كمتطوع في دراسة يجريها المكتب البريطاني للإحصاءات الوطنية، وأخضع للاختبارات التي تكشف إصابات كورونا الحادة والسابقة شهرياً. لذا أستطيع التأكيد على عدم إصابتي بالفيروس يوماً.

* رافاييلا فون بريدو، فيرونيكا هاكنبروش - DER SPIEGEL