في بيتنا جوّال... وكتاب!
في كل خريف يشهد العالم العربي، والكويت ضمناً، سلسلة متتالية من معارض الكتب التي تشي الأرقام المرتبطة فيها عن تناقض واضح بين حجم المبيعات المتواضع وازدحام أروقتها بعشرات آلاف الزوار! الأمر الذي يزيده سوءاً ما تكشفه التقارير من أن أكثر أنواع المطبوعات مبيعاً هي تلك المتعلقة بالطبخ، والأدعية، وبعض روايات الرعب والحب.
وأمام هذا الواقع، تبدأ عبارة «أمة اقرأ لا تقرأ» بالتداول في كثير من المجاميع، فمنّا من يتلقى كلماتها بالسخرية والامتعاض متسائلاً عن جدوى المطالعة في مثل هذا العصر، ومنّا من تزيده العبارة قابلية لجلد الذات والتحسّر على ما آلت اليه أوضاعنا والخوف مما سيكون عليه مستقبلنا! أما الواقع فهو بين هذا وذاك، فلا الانغماس بانشغالات العصر وتطوره التكنولوجي يقتضي أن يمنعنا عن القراءة، ولا مستقبل أجيالنا بهذه السوداوية إذا ما أحسنّا تعزيز معارفهم وتطوير مداركهم بالوسائل العصرية المتاحة.
لم يعد ممكناً أو معقولاً في عصر الذكاء الاصطناعي أن ننفي- أو حتى نناقش- التأثيرات الهائلة للثورة الرقمية على نمط الحياة في جميع المجالات، بما فيها طريقة اكتساب المعرفة، ففي حين بقي الشغوفون بالقراءة والكتابة حريصون على إصدار الكتب ونشر المؤلفات الورقية واقتنائها، أصبحت المعلومات والبيانات متاحة بشكل كبير عبر الإنترنت وعلى أجهزتنا الخليوية، مما سهل على جميع البشر الوصول إليها والاستفادة منها.
وهنا ينبري التساؤل: هل تلغي المستحدثات الرقمية المستجدة ما اعتاد عليه أهل الفكر من النهل من سطور الصحائف؟ الإجابة تصيب مباشرة ما يوحي به عنوان هذا المقال، اذ تكشف الإحصاءات المتداولة نقلاً عن بعض مراكز الدراسات الأميركية أن 75% من البالغين الذين شملهم الاستطلاع اشتروا كتاباً مرة في الشهر على الأقل، وقد باع الناشرون الأميركيون 825.7 مليون كتاباً مطبوعاً في عام 2021، في حين يتبين أن 35% من نسبة القرّاء تحولوا من الكتاب الورقي الى الكتاب الإلكتروني.
وفي تحليل هذه النسب التي تبدو أنها ترتفع تدريجياً في الدولة التي تشكل مهد الانترنت، يتضح أن الكتاب بقي منافساً قوياً في قائمة مصادر المعرفة، هذا إن لم نقل إنه ما زال المصدر الرئيس، كما أن تقنيات العصر قد سمحت بدمج الشغف التقليدي بقراءة الكتب من جهة، بسهولة ورخص الاستحصال عليها من جهة أخرى، فكان الكتاب الالكتروني هو البديل العصري.
*** عنوان المقال مقتبس من رواية «في بيتنا رجل» للكاتب المصري إحسان عبدالقدوس، والتي تم تحويلها في ستينيات القرن الماضي الى فيلم شهير بنفس العنوان.
الفهم الخاص لأحداث هذا الفيلم- بما يرتبط بأهداف المقال- يكشف أن وجود «رجل ثائر» لفترة معينة في بيت من البيوت التقليدية المصرية جرّ الأسرة بأكملها- بطريقة أو بأخرى- الى التأثر بالفكر الثوري وتداعيات الأعمال المرتبطة بالثورة، وهكذا الهاتف الجوّال الذي احتل مكان الصدارة في بيوت البشر حول العالم، وهكذا الكتاب الذي ما زال يزيّن أرفف المكتبات المنزلية رغم التخلي التدريجي عنه! قدّمت في عنوان المقال الهاتف «الجوال» على «الكتاب» لأنه أصبح بلا منازع الشريك الرسمي- وربما الموجّه الحقيقي- لكل تفاصيل حياتنا! فإن جرّنا إيقاع الحياة السريع الى التخلي عن الكتاب الورقي- على عكس ما أثبتته الإحصاءات في الدول الغربية- فمن الحرّي بنا والمفيد لنا أن نستغل وسائل التواصل والتطبيقات الحديثة لتعزيز معارفنا بدلاً من استخدامها في تدمير بيوتنا وتشتيت أسرنا وقتل أنفسنا.
صحيح أن القراءة الورقية تمنح الشغوفين بها تجربة حسية مختلفة ومميزة، حيث للمسة الأوراق وصوت حفيفها ورائحة الحبر وسحر الغوص ما بين سطوره، متعة لا يعرف قيمتها الا من يستسيغ مثل هذه الأجواء... ولا شك أن هذا النوع من القراءة التقليدية يعزّز المهارات الحركية والبصرية، ويساعد القارئ في التركيز والفهم بشكل أفضل، بعيداً عن كل العوامل المشتتة للانتباه التي يغزر وجودها إلكترونياً، إلا أن التعامل مع تقنيات العصر بشكل مفيد وممتع هو الحل السحري والمسار الإلزامي لقيادة أجيالنا نحو الانخراط في العالم المعرفي.
الكتاب في النهاية ليس سوى وسيلة لاكتساب العلوم وتعزيز المعرفة وتعميق المخزون الثقافي، وها قد أهدانا العصر وسائل أخرى، تبدأ بالكتاب الإلكتروني ولا تنتهي عند سحر الذكاء الصطناعي، مروراً بمنصة «يوتيوب» وما يشابهها من مواقع وصفحات ترتبط بـ«صناعة المحتوى» الهادف.
*** إن كل النجاحات التي تنسب «للرعيل الأول» لا يمكن إرجاعها لمجرد أن طلابه استخدموا الكتاب الورقي وخطّوا بقلم الرصاص بدلاً من «الكيبورد»، بل لأن ذوي الطلبة- الذين عادة ما كانوا أميين- كانوا حريصين على التيقن من جدّية أبنائهم الطلبة، ومتابعين صارمين مع المشرفين على العملية التربوية.
القضية تكمن إذاً في حسن التوجيه والمتابعة من الأهل والمؤسسات التعليمية والأكاديمية، وهذا ما ينطبق على جميع أساليب التعلّم والتعليم، أكانت تقليدية أم حديثة، وهنا قد يكون مفيداً التذكير ببعض الوسائل التي يمكن من خلالها تعزيز معارفنا بوسائل العصر، وفق ما يلي: - التعلم الذاتي، حيث نجد العديد من المواقع الإلكترونية والتطبيقات التعليمية التي تقدم دورات تدريبية وبرامج تعليمية في مختلف المجالات.
- البحث العلمي، فهناك الكثير من المواقع الإلكترونية والمكتبات الرقمية التي توفر لنا إمكانية الوصول إلى الأبحاث العلمية والدراسات الحديثة.
- الاطلاع على الثقافات المختلفة، فالمواقع المتخصصة والمنصات الإعلامية الإلكترونية لن تبخل علينا في أخذنا بجولات سياحية الى كل أنحاء المعمورة ولن تقصّر معنا اذا ما استجدينا كرمها التثقيفي.
لا شك أن تزودنا من المخزون العلمي والمعرفي مرهون بطريقة مقاربتنا لمصدره التقليدي أو الإلكتروني، ويكون ذلك بتحديد الهدف أولاً من استخدام الكتاب والإنترنت، ومن ثم حسن اختيار المصادر الموثوقة، ويأتي ثالثاً تطوير المهارات والمقدرة على ترتيب الأفكار والربط بينها، وذلك دون إغفال أهمية تنظيم الوقت، والحرص على التواصل مع الآخرين لتبادل المعلومات والأفكار والتجارب.