شرير مجرم أم خير وبطل وطني، منافق ومدّع أم صادق ومخلص، مات رجل الأسطورة في عالم الدبلوماسية هنري كيسنجر عن عمر يناهز المئة عام، اتفق الدارسون أم اختلفوا حول شخصه وسياساته، يظل كيسنجر علامة كبرى في السياسة الخارجية الأميركية والسياسة العالمية في فترة الحرب الباردة.
يتفق الباحثون عليه بأنه كان رمزاً للمدرسة الواقعية في السياسة الأميركية، والواقعية هي من إنتاج وممارسة المصانع الفكرية البريطانية - الأميركية والعقلانية الغربية بصفة عامة، بل وُصف بأنه متطرف الواقعية، فلا مكان للمثالية الأخلاقية في عالم السياسة، عنده السياسة أن تحقق مصلحة وطنك أياً كانت النتيجة، ولو كانت على حساب الغير وتدميره، هو مكيافيللي القرن العشرين، ربما! لكن هل يمكن أن نتخيل فكرة اسمها السياسة باعتبارها فن الممكن من غير فلسفة مكيافيللي؟!
حين كان عمره 23 عاماً كتب في إحدى رسائله بعد لقائه عدداً من الناجين من «الهولوكوست»: «... المثقفون، المثاليون والناس من أصحاب الأخلاق والمُثل العليا ليس لهم مكان، فهم يمثّلون الألم، والألم يعني الضعف، والضعف يعني الموت...» (ديفيد سانغر، «نيويورك تايمز» عدد 30 نوفمبر 2023).
تحت ظلال الواقعية الدامية أعطى أوامره عام 69 - 70 بضرب لاوس كمبوديا بقنابل سجادية (كاربت بومبنغ) وقتل أكثر من 50 ألف شخص من المدنيين الأبرياء، ويُنسب له قول «اقصفوا كل شيء ترونه يتحرك»، لعل النظام الصهيوني يقتدي به الآن في غزة، وغضّ كيسنجر الطرف إن لم يكن أعطى الضوء الأخضر للنظام الباكستاني عام 71 ليرتكب مجازر في بنغلادش، بل إن أميركا موّلت صفقة شراء طائرات وقنابل لباكستان.
وفي تيمور الشرقية، بارك كينسجر، الذي ظل وزيراً للخارجية أيام فورد، جرائم الرئيس الإندونيسي سوهارتو، بعد أن ارتكب المذابح التي تمت في تلك المستعمرة البرتغالية عام 75، وقبلها كان له الدور الأكبر في الانقلاب على الشرعية في تشيلي وقتل سلفادور الليندي وتتويج الدكتاتور بينوشيه.
يصعب حصر تلك الواقعية الحمراء حين كان كيسنجر مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية في نهاية الستينيات حتى منتصف السبعينيات.
رحل كيسنجر، وتظل المدرسة الواقعية «الدامية» باقية لتحقق الطموح الإمبريالي الأميركي. كانت موجودة قبل كيسنجر وتبقى بعده، ففي عالم السياسة الأناني لا مكان للمُثل الأخلاقية، مُثل سقراط وأفلاطون أزيحت تماماً لتحلّ محلها واقعية مكيافيللي - كيسنجر... فهل الشرور أمر جديد على الطبيعة البشرية؟ وهل يمكننا معرفة الخير من غير تضاده مع الشر؟