تاريخياً وحتى اليوم، أوروبا هي السبب في خلق كيان إسرائيلي في المنطقة وعلى حساب أصحاب الأرض الفلسطينيين.
في حرب 7 أكتوبر التي استمرت 44 يوماً، حتى الهدنة الأولى يوم 27 نوفمبر، وقفت العواصم الأربع باريس، ولندن، وبرلين، وروما إلى جانب إسرائيل، دعمتها بالموقف السياسي، وأعطتها الضوء الأخضر لارتكابها جرائم حرب إبادة وتهجير في قطاع غزة.
أصابها عمى ألوان ولم تر تجاه ما فعلته حكومة نتنياهو سوى حق الكيان في «الدفاع عن النفس» حتى لو وصل عدد الضحايا إلى 15 ألف إنسان مدني سقطوا بقنابل الطيران الهمجي، حولوا غزة إلى جحيم بشري ومقابر جماعية ومع ذلك لم يرف لهم جفن!
العواصم الأوروبية الأربع، هي من أوجدت دولة إسرائيل للتكفير عن الذنوب التي ارتكبتها هذه العواصم بحق اليهود، فحلت مشكلتها مع هؤلاء اليهود بدفعهم وتهجيرهم إلى فلسطين.
كنت أراجع كتاب الباحثة الدكتورة نائلة الوعري بنت القدس بعنوان «دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين»، فوجدت دور كل قنصل من هؤلاء الذين مارسوا أدواراً لا علاقة لها بالتمثيل الدبلوماسي، بل استغلوا وجودهم، وتحولوا إلى سماسرة لبيع الأراضي وجوازات السفر وتذاكر المرور لصالح اليهود.
تخيلوا قنصلا إنكليزيا يتسلل بقارب إلى باخرة تحمل يهوداً يستقبلهم خلسة ومعه مئات من جوازات السفر قبالة شواطئ حيفا ويافا وعكا، ثم يغيّر الأسماء والديانة ويعطي اليهودي القادم جوازاً باسم آخر وديانة أخرى ليدخل فلسطين، وأحد القناصل هجر الدبلوماسية ليصبح تاجر أراض لصالح اليهود، وهناك عشرات الأمثلة التي قدمتها المؤلفة في كتابها.
أهمية ما قدمته ابنة القدس يكمن في قولها إن احتلال فلسطين لم يكن بسبب وعد بلفور، فهذا كان نتيجة لا سبباً، فقد سبقته عمليات استجلاب لليهود من أقطار أوروبا، وبمساعدة خفية من القنصليات الأوروبية التي تعاونت مع الحركة الصهيونية من أجل تدفق المزيد من اليهود إلى فلسطين (1840-1914).
ألم يقل نابليون، ما غيره، عندما غزا مصر وفلسطين عام 1797، بأنه مستعد لمنح الحركة الصهيونية بيتاً في فلسطين، إن قام اليهود بمساعدته في حربه، فقد كانت الحكومات الأوروبية تصدر يهودها إلى فلسطين مانحة إياهم جوازات سفر وحماية وأمن خلال ترحالهم، وكانت فرنسا وبريطانيا في المقدمة، ثم تبعتهما روسيا وألمانيا لتشاركا في نيل جزء من الكعكة التي تقاسمتها أوروبا.
يجمع المؤرخون على أن الامتيازات التي نالتها الدول الأوروبية من الدولة العثمانية أدت إلى التنافس والصراع الاستعماري الأوروبي لتقسيم ممتلكات السلطنة العثمانية والمعروف ذاك الوقت «بالرجل المريض».
تستعرض الباحثة دور السلطنة العثمانية، بإعطائها جملة «مزايا» إدارية لليهود الأصليين من سكان فلسطين، مكنتهم من تصريف شؤونهم دينياً واجتماعياً ومعيشياً بل منحتهم الجنسية العثمانية، كذلك استفاد اليهود الأوروبيون من حق الحماية والرعاية الدولية لهم، واستطاعوا عن طريق البعثات القنصلية الأوروبية في القدس الوصول إلى فلسطين والاستقرار فيها وإقامة المزارع والمستوطنات الزراعية.
لم تتخلص عواصم القرار الأوروبي بعد من «عقدة اليهود» التاريخية التي رموها علينا، فالمواقف المنحازة تماماً لإسرائيل في حرب غزة يوم 7 أكتوبر 2023 رسّخت في أذهان الراي العام العربي أن هذا «الغرب الأوروبي» لم يصحُ بعد ويصحح خطأه التاريخي والاستراتيجي، بل يمعن في التضليل دون أي اعتبار للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان التي يتشدق بها ليل نهار في الحرب الروسية– الأوكرانية ويدوس عليها في الحرب الهمجية التي تمارسها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني.