صواريخ الصهاينة الوحشية وطائراتهم السفاحة تعود إلى ممارسة هوايتها في مطاردة الأطفال في غزة والضفة وكل فلسطين، وصوت المذيع يردد: «لقد انتهت الهدنة»، في حين ذاك الصحافي الميداني الغزاوي يقول «هدنة بأية حال انتهيتِ يا هدنة»، وبعينين حزينتين يتحسس ما تبقى مما كان، يذكر ساكني البيوت والعمارات بالأسماء ككل الغزاويين الذين لا يكتفون بذكر المناطق، وغزة كلها مستباحة بل العائلات بأسمائها وأسماء أفراد العائلة فردا فردا، ثم يأتي دور المستشفيات التي تعد أهدافا ضمن أهداف آلة حربهم من مستشفى العودة إلى مستشفى كمال عدوان، بعد أن انتهوا من كل المستشفيات التي انتهت بأن تحولت من ملاجئ للنازحين الى مقابر وبقايا أطفال ونساء ورجال حولهم القصف الوحشي إلى أشلاء.

أكثر من حقيقة كشفتها غزة بحربها وأكثرها ربما وجعا هي أنها ليست حرب إسرائيل وحلفائها، بل هي حربهم كلهم من أميركا وأوروبا إلا بعضهم، مرورا بكثير من العرب والدول الإقليمية التي تردد في خطاباتها البكاء على ما يحدث وتهدد وتتوعد في حين تجارتها وكل مصالحها مع الدول الصهيونية مستمرة جدا جداً، وكذا كثير من العرب.

Ad

الحقيقة الثانية أن الإعلام سلاح في هذه الحرب كما كان كل تاريخ الإعلام في العالم، وخصوصا في الدول التي تعدّ نفسها متقدمة أو هكذا كانت تخدع بعضنا، وتحت هذه الراية تقدم النصح أحيانا أو التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لدولنا وكل الجنوب كثيرا كثيراً!!

صدقنا مراراتهم عندما قالوا إننا لن نسمح بأن تعاد تجربة أحمد سعيد وصوت العرب ثم غيرهم وغيره مثل الصحاف في الحرب العراقية وآخرين، قالوا ذلك وراحوا يسخرون من الشعارات مثل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». صار بعضنا يخشى أن يوصم بذاك الوصم المسمى «قومجي»، أسقطت غزة كذبهم كلهم فلم يكن ما يزعجهم الكذب العلني على منصات الإعلام التقليدية والقديمة جداً مقارنة بوسائل التواصل اليوم والنقل المباشر... إلخ، بل كان يزعجهم أن كل العرب وكثير من أهل الجنوب كانوا مع الحق، وكانوا يستمعون لتلك المحطات الإذاعية لأنها وسيلتهم الوحيدة، قد يكون إعلام البروبرغاندا حينها مخطئا لكن المشاعر كانت حقيقية جدا جدا، ها هم اليوم يخشونها وإلا كيف يغلقون المواقع تحت حجج كثيرة، وكيف يمنعون النشر على وسائل التواصل التي يهيمن عليها بضعة أشخاص يتقاسمون الأرباح والنفوذ والهيمنة على السردية التي يريدون.

كان الإعلام ولا يزال أداة من أدوات الحروب كالدبابة والصاروخ، بل إنهم درسونا في كتبهم الأولى في الإعلام أنه عندما كانت اقتصاداتهم تشح أو تمر بأوقات عصيبة كانوا يقولون نريد حرباً لننعش الاقتصاد، فيرد عليهم رئيس التحرير لتلك الصحيفة الأميركية الشهيرة بمقولته الشهيرة «إن لم تكن هناك حرب فنحن نخلقها»!!! وفي الحروب تسقط الأقنعة وأولها التشدق، أي تشدق ما يسمى «الدول الديموقراطية البرلمانية»، بالحرية والحيادية، فيتحول الصحافي إلى جندي أو هكذا يحلم، والجندي الى صحافي كما قال روبرت فسك في كتابه عن تغطية الحرب الأميركية على العراق، عندما كانت الـ«سي إن إن» تصول وتجول وحدها وترسم صورة عن المعركة لا مرادف لها، فمن كان على ظهر الدبابة ليس كالصحافيين العرب الذين منعوا من التوجه الى الجبهات، وتركوا في عواصم بعض دول الخليج لتبدو «الصورة» أحلى بتطعيم الوجود الإعلامي ببعض الوجوه العربية، في حين ترسمها آلاتهم الحربية بدقة ليصدق بعضنا هذا النفاق والكذب المعلن.

بعد 1991 تحول الإعلام المتلفز إلى مطلب في كثير من عواصمنا العربية، وما لبث أن امتلأ الفضاء بمحطات تنافس تلك المملوكة لحكومة الدولة، ففرح بعضنا من الإعلاميين وتصور أن الإعلام تحرر من الحكومة ومن عين ويد ومقص الرقيب الموجود في الجريدة نفسها إلى إعلام حر، هكذا تصوروا بسذاجة فما هو إلا بعض الوقت ليتوحد رأس المال مع الحكومة، ويرسموا ما يريدون من صورة عن واقع الحي القريب من حينا حتى أصبحنا أكثر غربة في أوطاننا.

غزة كشفت أن الإعلام يزور الحقائق ويكذب، بل يلفق الصور، وأنه ليس الـ«سي إن إن» والـ«بي بي سي» فقط، بل كثير منه عربي اللغة صهيوني الهوى والمصالح، لذلك صعب علينا أن نعتمد على مصدر واحد لنعرف كيف يواجه أهلنا في غزة والضفة وكل فلسطين وجنوب لبنان، آلة الحرب المرعبة، ولم يعد لنا إلا صحافيين وصحافيات مراسلين ومراسلات سواء على المحطات التلفزيونية أو عبر وسائل التواصل على الأرض وبين الأنقاض ينقذون الأطفال بيد وبالأخرى يصورون ويرسلون عتمة الصورة والرعب على وجوه الأطفال الصغار حتى تعلقوا بهم، فأصبحوا ناقلين للخبر ومسعفين أيضا حتى لو كان إسعافهم نفسياً ومعنوياً لصغار غزة الباحثين بين الحجر والحجر عن بقايا شعر أمهم أو يد والدهم أو حجاب جدتهم.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.