ما قل ودل: الثقافة الأميركية والإسرائيلية الأكثر دموية في التاريخ (1-2)
الاستعمار اصطلاح دولي حديث استخدم منذ عام 1960، لوضع نهاية لاحتلال الدول الأوروبية لمناطق شاسعة في إفريقيا وآسيا، وفي تصفية الاستعمار الأوروبي، أنشأت الأمم المتحدة لجنة لتحقيق هذا الغرص في شهر نوفمبر سنة 1961، تشكلت من 24 دولة، من بينها بطبيعة الحال أفيال ثلاثة من أفيال مجلس الأمن، ذات العضوية الدائمة في هذا المجلس، وهي الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي وبريطانيا، ومن الدول العربية مصر وسورية والعراق وتونس.
ولم يكن قد جف مداد قرار تقسيم فلسطين، الذي أصدرته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1948، لتكرس احتلالا جديدا لأرض عربية، اغتصبها يهود العالم، تحت سمع وبصر الانتداب البريطاني، الذي فرضته الأمم المتحدة في عام 1922 وهو المسمى الذي اعتمدته هذه المنظمة الدولية، لاحتلال أراضي الغير، كانت هذه المنظمة العالمية الأخيرة قد أنشئت قبل الهيئة العامة للأمم المتحدة، وبعد الحرب العالمية الأولى.
أي أن المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة قد فعل الشيء ونقيضه في سعيه لتصفية الاستعمار، كرس استعمارا جديدا بتقسيم فلسطين، واحتلال يهود العالم لأرضها وطرد الفلسطينيين من أرضهم، وهو ما يطرح سؤالا مشروعا: لماذا أغمض المجتمع الدولي عينيه عن الاحتلال البريطاني لفلسطين، الذي أطلق عليه المجتمع الدولي وقتئذ «الانتداب» واستباح أرضا عربية في قلب الأمة العربية، لتقطنها وتستوطنها وتقيم فيها شعوب العالم كله من اليهود، الذين لا تربطهم أي صلة بأرض فلسطين، سوى أن سيدنا موسى عليه السلام قد نزع اليها من مصر مع جماعته من اليهود فرارا من اضطهاد فرعون لهم، وهي علاقة دينية تاريخية تربط جميع المسيحيين في العالم أجمع بفلسطين، حيث ولد سيدنا عيسى، عليه السلام، تحت جذع شجرة في رام الله بفلسطين، كما تربط جميع المسلمين في العالم كله، علاقة دينية كذلك بفلسطين، حيث كانت مسرى النبي محمد عليه الصلاة والسلام؟
شرعية احتلال فلسطين... حدودها
ومن هنا فإن فلسطين تعتبر أرضا محتلة، أضفى شرعية على احتلالها لهذه الأرض، قرار جائر وظالم، ولا تمتد هذه الشرعية بموجب هذا القرار إلى ما توسعت اليه إسرائيل من أرض خارج حدود هذا التقسيم، أو من أراض احتلتها بعد عدوانها الغادر في الخامس من يونيو 1967.
ولماذا يغمض المجتمع الدولي عينيه عن الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، إثر «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، وهو حق مشروع للشعب الفلسطيني، لاسترداد أرضه المحتلة، وقد سدت أمامه كل فرص السلام، القائم على العدل، على مدى سبعين عاما، ذاق فيها مرارة الظلم والقمع الإسرائيلي، وانتهكت فيه إسرائيل كل قواعد القانون الدولي العام، التي تكفل الحدود الدنيا للشعوب المحتلة من حق الحياة والحرية والأمن والسلام، فضلا عن انتهاكها قرارات الشرعية الدولية الممثلة في قرارات الأمم المتحدة، على مدى هذه العقود من الزمن؟
ولماذا يغمض المجتمع الدولى الرسمي عينيه عن تلك الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على غزة، بل قامت أفيال مجلس الأمن، بإرسال حاملات طائراتها وسفنها العابرة للقارات، والغطاء الجوى بطائرات الاستطلاع على إسرائيل وغزة، وصورها الجوية المحملة بأطنان من المتفجرات والأسلحة لقتل وسفك دماء الفلسطينيين، ومستشفياتهم وكنائسهم ومساجدهم ومدارس الأونروا التابعة للأمم المتحدة، وقد انصمت إليهم ألمانيا في هذه المجزرة الوحشية التي ليس لها مثيل في التاريخ؟
ولماذا يتخذ المجتمع الدولي الرسمي هذا الموقف في هذه المذبحة، وقد هتفت شعوبه وشعوب العالم أجمع هادرة بصوت واحد «الحرية لفلسطين»، بكل لغات العالم، وتحت علم واحد، أصبح الأكثر نورا ووميضا في العالم كله؟
أميركا وفلسطين وأرض الميعاد
ولعل أفضل ما نبدأ به في الإجابات المتعددة عن الأسئلة المشروعة السابقة هي وحدة الثقافة التي تسيطر على الفكر الأميركي والفكر الإسرائيلي، فقد كانت كل من أرض أميركا وأرض فلسطين، هي أرض «الميعاد» بالنسبة إلى أميركا التي هاجر إليها الإنكليز البروتستانت الفارون من الظلم في بلادهم، وكانت فلسطين هي أرض الميعاد التي هاجر إليها اليهود (المغامرون) من كل أنحاء العالم.
فقد كانت أميركا هي (العالم الجديد) أو القارة الجديدة التي اكتشفها «كريستوفر كولومبوس» في عام 1492، حيث تدفق الإسبان والبرتغاليون عليها، في الجزء الجنوبي من القارة وحيث تدفق الإنكليز والفرنسيون نحو شمال القارة، وكان معظم هؤلاء وأولئك من المنبوذين والمضطهدين والمدانين بجرائم في بلادهم، الفارين من تنفيذ أحكام في بلادهم بإعدام البعض منهم.
وتركز الاحتلال الفرنسي في الشمال (كندا) وتركز الاحتلال الإنكليزي في الجنوب، حيث نشأت بعد ذلك الولايات المتحدة الأميركية في عام 1578م، وكانت الحكومة البريطانية هي التي تطبق قوانينها الاستعمارية على هذه الأرض، إلى أن ثارت حرب تحريرية انتهت بمعاهدة فرساي في 13 سبتمبر سنة 1783م وإعلان استقلال الولايات المتحدة الأميركية وانتخاب واشنطن أول رئيس لها، ثم إلى قيام اتحاد فدرالي بعد أربع سنوات ضم كل الولايات الشمالية والجنوبية.
ثقافة هي الأكثر دموية
فالثقافة الأميركية لا تختلف عن الثقافة الإسرائيلية في موضع «أرض الميعاد» و«الشعب المختار»، وقد تحول الحق الإلهي للملوك في العصور الوسطى إلى حق إلهي لشعبين في الكون كله هو الشعب الأميركي والشعب اليهودي، حيث يعتبر «يهود» في المفهوم الوثني والقبلي عند اليهود إلها غيورا، فهو حسب هذا المفهوم، أقوى الآلهة، وسيمنح النصر لقبائله التي جعل منها الشعب المختار، وفرض عليها حقا، بل واجب إبادة كل الشعوب التي لا تشاركهم الإيمان به، كان هذا المفهوم سائدا لدى اليهود أيام الشرك وقبل الديانة اليهودية، وأصبح يعززه التلمود والأسفار التي وضعها الحاخامات، الذين يعتبرون أقوالهم أقدس من أقوال الأنبياء.
وفي هذا السياق يقول الفيلسوف والمفكر الفرنسي روجيه جارودي، «إن فكرة الشعب المختار، هي الأكثر دموية في التاريخ، والتي أباحت للمهاجرين الإنكليز إلى أوروبا استئصال الهنود، وقد اعتبرت كنيسة القديس بولس في روما أن تدمير وذبح ملايين الهنود نوع من التنصير، وقد تساءل أحد الباباوات عما إذا كان الهنود يتمتعون بروح كالبيض، ليقسم أراضيهم بين إسبانيا والبرتغال، وكانت هذه الفكرة أساس الكثير من أنماط الاستعمار». (الإرهاب الغربي- روجيه جارودي، مكتبة الشروق الدولية. ط 2004 ص 76)
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.