شعب الله المختار وأرض الميعاد
طرحنا في مقالنا المنشور على هذه الصفحة بتاريخ 4 ديسمبر الجاري الأيديولوجية الفكرية والثقافية التي تقوم عليها الولايات المتحدة الأميركية ونشأتها من خلال احتلال جماعة من الإنكليز جنوب القارة الأميركية واستئصال سكانها الأصليين من الهنود الحمر، وقيام إسرائيل وفقاً للأيديولوجيا والثقافة ذاتها من احتلال مجموعة من المغامرين من شتى أنحاء العالم أرض فلسطين، الذين لا تربطهم بها أي صلة من ميلاد أو إقامة سوى أنهم يهود يرتبطون بهذه الأرض التي نزحوا إليها مع سيدنا موسى عليه السلام فراراً من ظلم الفراعنة في مصر، وقلنا إن هذه الرابطة الدينية تربط مسيحيي العالم ومسلميهم بهذه الأرض المقدسة، فتحت جذع شجرة في رام الله في فلسطين ولد سيدنا عيسى عليه السلام، وفي أرضها كان مسرى الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيها المسجد الأقصى.
وفي هذا السياق طرحنا الفكرة العقائدية التي تقوم عليها نشأة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل بأنها شعب الله المختار، وأن أميركا وفلسطين هي أرض الميعاد بالنسبة إلى الدولتين على التوالي.
وفي هذا السياق صاغ جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية، الأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه الولايات المتحدة، في خطابه الافتتاحي الذي يقول فيه «ليس هناك أكثر من شعب الولايات المتحدة شكراً وعبادة لليد الخلفية التي تتحكم في شؤون الناس، وتقودهم إلى طريق الاستقلال الوطني، وكأنها تحمل علامة تدخل العناية الإلهية».
وجاء بعده جون آدامز الذي كتب في عام 1765 ما يلي: «إن تأسيس أميركا ليس إلا إرادة العناية الإلهية لتعليم وتحرير قطاع كبير من البشرية التي ما زالت خاضعة للرق».
وجاء الرئيس الثالث جيفرسون ليقول: «إن شعبه هو شعب الله المختار»،
وهي التعويذة التي رددها نيكسون بعد قرنين من الزمان في قوله «إن الله مع أميركا ويريد أن تقود العالم».
ولم يكن معظم هؤلاء المهاجرين إلا من المنبوذين والمحكومين بجرائم في بلادهم الأصلية والمضطهدين، فتركز الفرنسيون في الشمال (كندا) والإنكليز في الجنوب (الولايات المتحدة) بما يجعل التطابق تاماً مع المهاجرين اليهود إلى فلسطين الذين يحملون الصفة ذاتها، والذين يسعون منذ احتلالهم لأرض فلسطين إلى استئصال الشعب الفلسطيني بالتوسع الاستيطاني وطرد السكان الأصليين بالقمع والقتل والأسر، وهو ما كشفت عنه إسرائيل في وجهها القبيح في حرب الإبادة الجماعية لشعب غزة التي أعلنتها بعد «طوفان الأقصى».
ولم يكن استئصال الهنود هو وحده الأكثر دموية في التاريخ، بل تلاه في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، التي لم تشارك فيها الولايات المتحدة أصلاً إلا في 7 ديسمبر 1941 عندما شنت اليابان هجوماً مفاجئاً على بيرل هاربور، وألقت القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، في عهد الرئيس الأميركي هاري ترومان ليس لغرض عسكري، لأن الحرب كانت قد أوشكت على الانتهاء، ولكن لتسترد الولايات المتحدة هيبتها العسكرية التي فقدتها في بيرل هاربور، وكلنا يعلم الأعداد المهولة التي راحت ضحية هذه القنبلة ممن لقوا حتفهم، ومن بقوا على قيد الحياة، كان الموت رحمة بالنسبة إليهم، بعد التشوهات الخلقية التي أصيبوا بها والإشعاعات التي استقرت في أجسادهم لينقلوها إلى أبنائهم.
وقد رفضت لجنة ضحايا القنبلة الذرية، التي تأسست سنة 1948 بناء على أوامر الرئيس الأميركي هاري ترومان، إعطاء العلاج الطبي للناجين، حتى لا يؤثر ذلك سلباً على نتائج البحث العلمي الذي تجريه خلال الفترة التي قامت اللجنة خلالها، بإجراء المهمة التي كلفت بها، وهي تقصى آثار الإشعاعات على الناجين، وفقا لما كتبه بعض الكتاب الأميركيين أنفسهم، وهي فترة استمرت سنوات.
والولايات المتحدة الأميركية هي التي زرعت جسماً غريباً في قلب الوطن العربي، هو إسرائيل، بقرار تقسيم إسرائيل الذي ما كان يمر في الأمم المتحدة، لولا الضغط الأميركي، ومدت هي والاتحاد السوفياتي العصابات الصهيونية بالمال والعتاد والأسلحة لقتل وتشريد الفلسطينيين واحتلال أراضيهم بالقوة، والتاريخ لا يغفل مذبحة دير ياسين ومذبحة قانا وصبرا وشاتيلا في لبنان وغيرها من مذابح تجري كل يوم على الأرض الفلسطينية، ويروح ضحيتها الأطفال والنساء والشيوخ، بحماية القوة العظمى أميركا وتعضيدها، وقد استخدمت حق الفيتو عشرات المرات لإجهاض قرارات مجلس الأمن الدولي في السنوات الخمس الأخيرة، في حين أجمع العالم كله على إدانة إسرائيل، فضلاً عن القرارات الأخرى التي ظلت حبيسة المناقشات في المجلس بسبب التهديد باستخدام الفيتو الأميركي.
وكان لأميركا الدور الرئيس في:
1- هزيمة جيوش الدول العربية التي رفضت قرار تقسيم فلسطين وأعلنت حرب تحريرها، ودخلت الجيوش في أول مايو 1948 لتجتاح أغلب الأراضي التي احتلتها القوات الإسرائيلية في أسبوع واحد، وكان بينها وبين تل أبيب 15 كيلومتراً، حيث أجبرت أميركا هذه القوات على وقف القتال بفرض هدنة لدعم العصابات الإسرائيلية، ليتسنى لها هزيمة الجيوش العربية.
2- كان للولايات المتحدة كذلك دور في هزيمة مصر في سنة 67 في الرسالة التي بعث بها الرئيس الأميركي ترومان إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يطلب منه عدم بدء الحرب، وهو ما التزم به الرئيس المصري فبدأت إسرائيل حربها في الخامس من يونيو سنة 67.
3- جاء نصر أكتوبر 73 ليعيد للأمة العربية كرامتها وإرادتها، ولتتدخل أميركا بشكل سافر وفاضح، حيث أمر الرئيس نيكسون بإنشاء جسر جوي بأحدث الأسلحة الأميركية الأكثر والأسرش فتكاً بالبشر، وأصر نيكسون على أن يحمل هذا الجسر علم أميركا.
ومن الجدير بالذكر أن سلاح البترول العربي كان له أثر كبير فى نصر أكتوبر، كما كان لهذا السلاح أثره أيضاً فى انتهاج الإمبريالية العالمية، أيديولوجية جديدة، وسياسة جديدة تحتوي فيها خطر استخدام هذا السلاح مرة أخرى وتحد منه.
4- الولايات المتحدة الأميركية هي التي حرمت شعب البوسنة والهرسك من السلاح الذي يدافع به عن نفسه في الحرب المروعة التي شنها عليه جزار الصرب بقيادة مجرم الحرب كاردان غرافونيتش، مما دعا تاديوز مازوفيسكي أول رئيس لحكومة بولندا عقب نهاية الحكم الشيوعي إلى تقديم استقالته بصفته محقق الأمم المتحدة في قضايا حقوق الإنسان، احتجاجاً على الجرائم المروعة التي ارتكبها صرب البوسنة في جيب سربرنيتشا المسلم، والذي اتهم فيها قادة المجتمع الدولي بالرياء والتناقض والافتقار إلى الشجاعة في الدفاع عن الملاذ الآمن الذي أقيم بقرار من مجلس الأمن، وطالب في استقالته المجتمع الدولي إما بحماية المدنيين بقوة السلاح، وإما رفع الحظر عن الأسلحة حتى تستطيع حكومة البوسنة أن تسلح قواتها في وجه الأسلحة المتفوقة التي يملكها الصرب، ومقرراً في استقالته أن أمن النظام الدولي والحضارة ذاتها في خطر بسبب قضية البوسنة، ومختتماً كتاب استقالته الذي رفعه إلى الأمين العام للأمم المتحدة بقوله إن لشعب البوسنة الحق في أن يدافع عن نفسه طالما تقاعسنا، كمجتمع دولي عن النهوض بهذه المهمة.
5- «وليست زلة لسان التي قيل إن الرئيس بوش وقع فيها وهو يعبر عن الحملة ضد الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، بأنها حملة صليبية إلا تعبيراً عن هذا الوجدان الغربي، الذي حمل شعلته جورج بوش الأب في حملته الانتخابية عام 92 عندما قال وبالحرف الواحد في إحدى خطبه التي نقلتها صحيفة الأهرام القاهرية في 5/ 9/92 إني هنا أمثل أميركا التي تمثل بدورها الحضارة المسيحية اليهودية التي تقود عالم اليوم بلا منافس.
إنه الوجدان الغربي الذي عبر عنه الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون في كتابه «الفرصة السانحة» عندما قال «إن المسلم غير متحضر ودموي»، والذي عبرت عنه مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة عندما طالبت، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بالمحافظة على حلف الأطلنطي لمواجهة الخطر الإسلامي».
هذا غيض من فيض والأمثلة كثيرة لا يتسع لها المقال الصحافي، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.