لم أكن أسمع باسم السيدة «سوسن» و«مطبخي» من قبل إلا عن طريق أولادي الذين يتابعونها عبر الإنستغرام، بعدها نصحني صديق وزميل أن أذهب إلى «أسواق القرين» لتذوق أكل سوسن، وقبلها جاءتني دعوة من الصديق السفير محمد خلف ولم يسعفني الوقت للذهاب لكني لبّيت دعوته والأخ مفيد عبدال وكانت فرصة لا تعوض، تفتح نفسك وشهيتك مجرد جلوسك على الطاولة، وكل ما تشتهيه مصنوع لإضفاء أجواء التراث الفلسطيني وبروح فنية عالية، فقد استحضرَت السيدة سوسن مفتاح بيتها وعلقته على الحائط، ما أشعرني بالاحترام ليس بطريقة إعداد الأطعمة التي تعدها وتشرف عليها فقط، بل ترحيبها وابتسامتها وروحها المرحة التي تنقلها إليك، بمجرد الدخول إلى دارها، وما زادني احتراماً لشخصها أنها راحت تربط بين هويتها الفلسطينية بالأصل وبين ما تقدمه أو تعده للجمهور، فالبرتقال اليافاوي ينقلك إلى تاريخ هذه المدينة العريقة، بعدما تحول إلى «رمز وطني» بالرغم من أن اليهود انتزعوا هويته وصادروها، لكنه أي البرتقال لو كان بمقدوره أن يحكي لكان نطق بأن الأرض التي نبت وترعرع فيها هي فلسطين.
أجادت السيدة سوسن توظيف المطبخ وجعله حكاية من حكايات الأرض والانتماء سواء بالفيديوهات أو بنوعية الطبخ التي تتفنن في تقديمه، وهو من التراث الفلسطيني والعربي ومنطقة بلاد الشام.
تجربة سوسن عثرت عليها في كتاب الزميلة والكاتبة الجريئة السيدة دلع المفتي التي افتقدنا كتاباتها منذ فترة، لكنها عوّضت هذا الغياب بكتابين الأول «مطبخ دلع» والثاني «شمس منتصف الليل» لكنني توقفت أمام «طبخ حكايات دلع» الذي يجمع بين أمرين تحبهما في حياتها هما «الطبخ والحكايات» علماً أن كتب الطبخ تملأ المكتبات ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي أكثر من الهمّ على القلب بحسب تعبيرها.
الزميلة دلع لم تفكر يوماً بنشر كتاب عن الطبخ، وإن طرأ على بالها أن تدخل عالم البيزنس وتفتح مطعماً، لكنها أعرضت عن ذلك واكتفت «بمطبخها» بعد إلحاح من الأبناء والقراء والمتابعين، فقد تعودت الطبخ مهما كان مزاجها، تطبخ وهي سعيدة، تطبخ وهي حزينة أو غاضبة، أو مريضة، وعندما كسرت يدها، كانت تدخل المطبخ وتؤدي المهمة بيد واحدة، وبعد انتهاء جلسات علاج السرطان كان المطبخ طريقها المباشر حال عودتها إلى البيت... المطبخ بالنسبة إليها يشعرها أنها بخير وأنها شفيت وعادت للحياة، ربما يعود ذلك لأن أطباقها غنية «بالمحبة والدلال وبعض الدلع» لكن إذا رغبت يوماً في معرفة أكلات دلع فما عليك إلا التوجه إلى «دار كلمات للنشر والتوزيع» فستجد مع كل طبخة حكاية ممتعة ومشوقة.
يبقى الموسيقار «زرياب» سيد الساحة في عالم الطبخ، فكتاب المثقف والمستنير الأستاذ فاروق مردم بك يأخذك إلى عالم لم يخطر على البال، عنوان كتابه الذي أصدره بالفرنسية من مقر منفاه الباريسي «مطبخ زرياب»، فيه تتلمس تاريخ المأكولات وماذا فعل هذا العبقري، أي زرياب، وهو الذي علَم أهل قرطبة إعداد المأكولات البغدادية وأدخل «الهليون» إلى إسبانيا. كتاب فاروق مردم بك يصحبنا في رحلة يضعنا فيها وجهاً لوجه إزاء الأكلات في سياقها التاريخي، وستجد تأصيلاً للتاريخ الثقافي «للمطبخ الإسلامي» على امتداد زمني كبير يمزج بين أدب الرحلات وانطباعات المؤلف ومشاهداته الطريفة حول فنون الطبخ وتاريخها عبر نوادر تاريخية وقرارات ثقافية.
زرياب بصفته مفكراً لا طاهياً نقل إلى أوروبا طريقة ترتيب وتناول الطعام على ثلاث دفعات أو الوجبات أولاها: الحساء (الشوربة) ثانيتها: الطبق الرئيسي (لحم أو سمك) ثالثتها: الفواكه والحلويات، هذا العبقري أوصل الحضارة الإسلامية والشرقية إلى الأندلس.