للأسف، لن يجادل أحد في أن بريطانيا، منذ الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الأوروبي، وجهت انتباهها صوب الداخل أكثر، لقد أصبح المجال السياسي الأوروبي ميداناً معزولاً، لكن الأمر لا ينطبق فقط على المحافظين، وتعد صدمة الليبراليين البريطانيين وحيرتهم إزاء نتائج الانتخابات في هولندا جزءاً من هذه العزلة، فبعدما استهلكت الحروب الثقافية التي بدأت عام 2016 المملكة المتحدة، غاب عنها ككل التحول المناهض للمهاجرين الذي طرأ في الاتحاد الأوروبي.
من احتلال حزب فيلدرز، الذي يشن حملة على «تسونامي اللجوء»، إلى حرق الحافلات والعنف الجماعي اللذين اندلعا في قلب دبلن قبل أيام في مناهضة للمهاجرين، ناهيك عن تقدم حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب مارين لوبن في فرنسا في الاستطلاعات، يتفاعل المجال السياسي في أنحاء القارة كلها مع المستويات التاريخية للهجرة التي استفاد منها اليمين المتطرف. وفي عام 2022، وصل ما يقارب مليون طالب لجوء إلى الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج، إضافة إلى نحو أربعة ملايين أوكراني كانوا قد التمسوا الأمان هناك بالفعل. لقد ارتفعت طلبات اللجوء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 38% منذ عام 2019، وتثير هذه الأرقام قلق الزعماء الأوروبيين، ليس لأنها تشير إلى أن أياً من التدابير التي اتخذت عام 2016 لم يثبت كفايته فقط، بل لأنها تثير قلق الناخبين الأوروبيين أيضاً.في هولندا، انتهى بالتأكيد عهد رئيس الوزراء مارك روته الوسطي الذي دام 13 سنة، ويعد فيلدرز مثالاً متطرفاً في شكل خاص على نوع من العمل السياسي كان يكتسب أرضية في كل مكان، لقد فاز السياسي الهولندي، الذي بدأت حملته الطويلة للوصول إلى هنا قبل 17 سنة عندما أسس حزب الحرية، بربع المقاعد في البرلمان بفضل دعوته إلى وقف قبول طلبات اللجوء وصد المهاجرين عند الحدود الهولندية، لكن تصلب المواقف واضح في أنحاء أوروبا كلها.
في ألمانيا، عندما يتعلق الأمر بالهجرة، انتهى عصر ميركل بالتأكيد أيضاً، يقول المستشار أولاف شولتز، متحدثاً عن أعداد اللاجئين، «يجب أن نرحلهم أخيراً على نطاق واسع»، وتعكس تصريحات شولتز المزاج الوطني، فقد جعل فريدريش ميرز، زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي، من الحد من الهجرة عرضه الرئيس، المليء بتعليقات حول أن ضواحي برلين ليست ألمانية بما فيه الكفاية. في إسكندنافيا، التي طالما اعتبرتها بريطانيا منارة للقيم التقدمية، اتخذت كل من الدنمارك والسويد منعطفاً يمينياً بالتأكيد في شأن الهجرة، وفي الدنمارك، قاد ذلك يسار الوسط، الذي في موقفه من اللجوء أو تفكيك «غيتوهات» المهاجرين يقبع في الواقع على يمين معظم أحزاب يمين الوسط الأوروبية، وفي الوقت نفسه في السويد، حيث يعد الديموقراطيون السويديون، اليمينيون المتطرفون، أكبر حزب يدعم حكومة أقلية يمينية، يمكن أيضاً تحديد تحول نحو اليمين في شأن الهجرة. صحيح أن الانتخابات في إسبانيا وبولندا سارت في الاتجاه الآخر، لكن في كل منهما، انتصر يسار الوسط بفارق ضئيل على اليمين الذي أصبح متطرفاً بعمق في شأن مسألة الهجرة، ناهيك عن رسوخه. من الواضح أن المفوضية الأوروبية تراقب هذا كله بقلق، لكن ليس بذعر، صحيح أن حزب فيلدرز قد يدعم استفتاء على «نيكست» (خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي)، لكن التوقعات تشير إلى أنه سيسعى إلى التخلي عن ذلك كي يتمكن من تشكيل ائتلاف، وبشكل عام ترى المفوضية في جورجيا ميلوني في إيطاليا النموذج لما يبدو عليه اليمين المتطرف حين يتولى السلطة بالفعل، ويعرض عملها السياسي على شركائها المترددين في الائتلاف صفقة بسيطة: في مقابل السلطة، ستتخلى عن أجندتها المناهضة للاتحاد الأوروبي، في حين تظل مخلصة لأجندتها المناهضة للجوء. لا يتمثل السيناريو الحقيقي الذي يفكر فيه المطلعون في بروكسل في استيلاء سلسلة من قادة اليمين المتطرف على السلطة ومغادرة بلدانهم الاتحاد الأوروبي فقط، بل في سيطرة هذه الحكومات على مؤسسات بروكسل وإعادة تشكيل أوروبا على صورتها، وسيعتمد حصول ذلك من عدمه على نتيجة انتخابات عام 2027 في فرنسا، التي تظل كما كانت أيام نابليون بونابرت، بوتقة أوروبا، ومما يثير قلق الليبراليين الأوروبيين، أن رئاسة ماكرون تبدو بالفعل بطة عرجاء بسبب فقدان حزبه السيطرة على البرلمان. ونظراً إلى عدم قدرته على الترشح للمرة الثالثة، يشعر مطلعون باريسيون أن لوبن لديها فرصة حقيقية للوصول إلى الإليزيه هذه المرة، مع أسئلة حقيقية تتعلق بمدى اتباعها قواعد الأداء الخاصة بميلوني؟ واليوم، قد تستهلك المجال السياسي البريطاني مسائل حول ما إذا كانت خطة معالجة طلبات اللجوء في رواندا في الخارج قانونية أم لا، ناهيك عن كونها قابلة للتطبيق، لكن كثيراً ما ينسى أن كلاً من ألمانيا والدنمارك تنظران في برامج مماثلة. وفي الوقت نفسه ضمنت إيطاليا بالفعل بعض المعالجة الخارجية في ألبانيا، ويعد السؤال الأكبر حول ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيتحرك، نحو التخلي عن المعاهدات التي تدعم قانون اللجوء أو إصلاحها، سؤالاً سياسياً. هل تنتمي بقية العقد الثالث من القرن الـ21 إلى أقصى اليمين؟
ثمة شيء واحد لا يمكن أن يدور شك حوله، وهو أن المجتمعات الأوروبية قد تغيرت بالفعل في شكل كبير بسبب الهجرة، وفرنسا، التي كانت نسبة المسلمين فيها عام 1950 تبلغ 0.55 في المئة، أصبحت الآن تضم أكثر من 10 في المئة من المسلمين، وأصبحت ألمانيا، التي أصر المستشار هيلموت كول على أنها ليست «مجتمعاً مهاجراً»، حتى إيرلندا، التي كانت حتى وقت قريب بلداً تحدده الهجرة منه، أصبحت الآن نسبة المولودين في الخارج من سكانها تساوي 18 في المئة، وهي نسبة أعلى مما هي عليه في الولايات المتحدة. أثناء تجوالي في القارة من أجل تأليف كتابي الجديد «هذه هي أوروبا»، الذي يسعى إلى توثيق التحول الدراماتيكي في القارة، كان أحد أسئلتي الرئيسة هو: كيف يبدو الأمر بالنسبة إلى المهاجرين أنفسهم؟ كان أحد الأشياء التي أدهشتني هو أن طالبي اللجوء واللاجئين المتنوعين مثل الرجال السوريين في برلين، أو النساء الأفغانيات في أثينا، صدموا هم أنفسهم كيف أن أوروبا ليست أوروبا التي توقعوها، بل قارة تحولت بسبب الهجرة إلى نوع مختلف تماماً من المجتمع. في فرنسا وألمانيا، شعر كثر بأن أفراد الطبقة الوسطى المولودين في أوروبا ليست لديهم أدنى فكرة عن مدى التنوع الذي وصلت إليه المجموعات السكانية العاملة المستندة إلى الهجرة في القارة، فقد أخبرني مهاجرون أن السلطات الأوروبية تتعامى عن استغلال المهاجرين أو قوة العصابات العرقية. شعرت بريطانيا في عصرها الشعبوي بالوحدة في أوروبا، عندما بدت أوروبا كتلة ليبرالية، وقد تشعر بالوحدة بطريقة مختلفة في أوروبا حين يحدد سياسيون مثل غيرت فيلدرز وجورجيا ميلوني الإيقاع.
* بين جودا