دبل إكسبرسو
إصبع قدمه اليمنى (الإبهام) متورم شديد الزرقة ملتهب بظفر تم قلعه من الجراح الذي كان يريد أساساً إصلاح حوضه المنكسر بعد أن سقط صاحبه من السرير، قلت للمضمد الذي كان يراقب حالة المريض الهادئ المتحمل لأوجاعه بصبر شديد، بينما كنت أشير إلى القدم المتورمة: هل تعلم أن هذه القدم حققت في زمن قديم أهدافاً رائعة في مباريات كرة القدم لنادي الكويت ولمنتخب الشباب الكويتي، الذي كان يعد منتخب الدولة الرسمي ذلك الوقت... مَن يدري الآن عن هذه القدم وصاحبها وهو يتجرع آلام المرض وعذابه في ساعات العمر الأخيرة!
حين أسند للدكتور هلال الساير منصب عميد كلية الطب بعد التحرير في بداية الشطر الأول من التسعينيات، وأخبروه أن هناك بعض الطالبات غير ملتزمات «بالكود» الخاص بالكلية، حيث كن يضعن النقاب ويغطين اليدين، أصدر قراره بمنعهن من الدراسة، فمثل ذلك اللباس يتعارض مع التجارب المختبرية التي يفترض للطلاب والطالبات أن يجروها.
كالعادة في دولة المزايدات والبطولات السياسية حين ترتدي الزي الديني السياسي المحافظ وتنفخ بألسنة نيران الضحالة لتؤجج مشاعر الناس بعد أن حشرت ذاتها في كل شؤون الحياة دون استثناء حتى أدق التفاصيل العلمية، قامت الدنيا على د. هلال لقراره السابق، فكتب د. ناجي الزيد، وهو الأستاذ بكلية الطب، مقالاً رائعاً في «القبس»، يشرح فيه التجربة العلمية المطلوب من طلاب وطالبات الكلية إجراؤها، ويستحيل القيام بها مع النقاب والقفازات الطويلة... لم يكن أغلبية الناس تصغي لصوت العقل والعلم إزاء طوفان التَّزمت الديني، وانتصرت السلطة الحاكمة للأخير، كما تفعل اليوم ولغد غير معلوم.
ناجي الزيد أول دكتور في علم وظائف الأعضاء يحصل على درجة الأستاذية بجامعة الكويت، ولعله كان أصغر الأساتذة سناً في ذلك الوقت، حصل على الدكتوراه من أرقى الجامعات الإنكليزية في لندن، وتزوج من د. موضي بورسلي التي كانت تدرس معه هناك في ذلك الزمن الجميل، وأنجبا فيما بعد د. سعود ود. فواز.
الجراح سعود اليوم هو أحد أفضل جراحي الحوادث في الدولة، ويعمل على مدار الساعة في مستشفى العدان، بينما د. فواز الابن الأصغر هو أستاذ البيولوجيا والتغذية في جامعة باريس ومعهد السكري في الكويت، وقدم أدق البحوث العلمية في مجال تخصصه... هكذا أسرة تنتج لنا مثل هذه البراعم الخلاقة وتثري مجتمعاتها ودولها... إن كان هناك من يقدر ويثمن البشر المبدعين في وطن لا يكترث للعطاء وإنما للأسماء.
بعد ساعة من كتابة هذا المقال (الاثنين) سأذهب للمقبرة لألقي النظرة الأخيرة على ناجي قبل أن يوارى التراب، لن يسألني هذه المرة «ماذا تريد أن تشرب من المقهى الذي نجتمع فيه كالعادة؟» ولن أجيبه «دبل إكسبرسو»، فهو لن يجيب ولن يقوم من مكانه ليطلب من النادلة... لن يتحدث أبداً... رحل بلا عودة... وكلنا سنرحل في زمن قريب أو بعيد... فمن يعلم عن ذلك القطار الأسود الذي يقف عند محطات الحياة ليزج بنا في عرباته دون مواعيد مسبقة... ركب ناجي عربة الوداع في صبيحة اليوم الأول للسنة الجديدة.