فوق حريات الضمير
مادام هناك سلطة مهيمنة على المال السياسي وما يصاحبها من قوة «اللوبي» الإعلامي فلا مكان للبحث عن الحقيقة في حريات الضمير، وأهمها حرية التعبير.
الحديث ليس عن دول الخيبة القمعية اليوم، بل عن أقوى دولة في العالم طالما تشدق ساستها وأهل الفكر فيها وفي العالم بأنها المكان الذي تحقق به عملياً مبدأ الفصل بين السلطات كما تمليه أحكام المحكمة العليا، وهي أول دولة نص دستورها في التعديل الأول على «مبدأ حريات الضمير، وأنه لا يجوز انتهاج أي عمل يعوق ممارسة الحرية الدينية وحرية التعبير وحرية الإعلام وحق الناس في التجمع...».
مثل ذلك المبدأ الكبير أضحى من غير معنى بعد استقالة مديرة جامعة هارفرد من منصبها إثر التحقيقات الجائرة التي قام بها أعضاء مجلس النواب الجمهوريون في تهم عدم اكتراث المديرة السيدة «غي» لقيام تجمعات من الطلبة والطالبات في الجامعة برفع شعارات مزعومة ضد السامية، وهي التهمة المعلبة الجاهزة ضد أي حركة رفض واحتجاج ضد السياسة الإسرائيلية بسبب المذابح التي يرتكبها الاحتلال ضد أهل غزة، واللوبي الصهيوني صاحب الكلمة العليا في الولايات المتحدة يساوي تماماً بين معاداة السامية ورفض الصهيونية كحركة قومية استعمارية.
الاحتجاجات ضد مذبحة غزة التي ظهرت في عدة مدن أميركية لم ترفع في أغلبها أي شعار ضد اليهودية أو السامية، بل كانت تعبيراً إنسانياً ضد المجازر التي تقوم بها إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى، وهي جرائم إبادة عنصرية لا تفرق أبداً بين مقاتلي حركة حماس وأطفال ونساء غزة.
قبل استقالة مديرة جامعة هارفرد التي تمت مهاجمتها بشدة من كبار الداعمين الماليين لأغنى جامعة في العالم، وهم أفراد بليونيرية ومؤسسات تجارية ضخمة تسير في ركاب الصهيونية، استقالت بعد ضغوط ابتزازية من ذات أعضاء الكونغرس مديرة جامعة بنسلفانيا، والآن تتعرض رئيسة جامعة «أم أي تي» للضغوط ذاتها بغرض تكميم أصوات المعارضين للمجزرة الإسرائيلية.
أين ذهبت حرية التعبير والتعديل الأول للدستور الأميركي في الجامعات الأميركية العريقة؟ وهل كان نوام تشومسكي على خطأ حين انتقد بمرارة، على مدى سنوات طويلة، السيطرة الإعلامية لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة من المؤسسات المالية، وكيف تقوم هذه «بتصنيع الرضا» عند الناس بالولايات المتحدة؟!
إذا كانت الأمور تجري بتلك الصورة في بلد كثيراً ما تفاخر أهله بحريات التعبير، فماذا نقول عن واقعنا العربي في عالم أصمت وأخرس فلا صوت يعلو فوق صوت السلطة؟