لا يمكننا العيش دون بشر، فجودة حياتنا تعتمد بشكل كبير على جودة علاقاتنا، والمفارقة أن الناس هم سبب معاناتنا وسعادتنا في آنٍ واحد، وفي هذه البقعة العجيبة من الأرض المتفردة في ظروفها، نجد أطيافاً متنوعة من الشخصيات التي قد صقلتها مصاعب العيش أو أفسدها الرخاء والترف في الكثير من الأحيان، أو لربما كانت خليطاً من عدة أمزجة.
على أية حال لا يمكننا تجنب العلاقات الإنسانية، فالبقاء في برجنا العاجي قد يضمن لنا بعضاً من الهدوء والسلام، لكنها ستكون حياة وحيدة بائسة دون أي تحديات تحفزنا على النمو والتطور، لذا، وإن كانت بعض التجارب مؤلمة إلا أنها قد تكون عاملاً أساسياً في صقل النفس البشرية واستخراج أجمل ما فيها من صفات الكرم والرحمة والوفاء، حيث نكون بذلك قد خرجنا من دوامة السلبية إلى نور الوعي، وفي الوقت ذاته فإن حرق بعض الجسور يكاد يكون ضرورة لحماية النفس من الشخصيات الضارة والملوثة، وتطهير حياتنا من الحساد والمتطفلين كثيراً ما يكون سبباً أساسياً في نجاحنا، هنا ندرك أن العلاقات البشرية مركبة للغاية، فلا توجد «وصفة» واحدة لكيفية التعامل مع الآخرين.
قلة هم من يستحقون لقب «الصديق» بالفعل، وتتقلص دائرة الصداقة تلك كلما ازدادت نسبة الوعي والثقافة، لا سيما في مجتمع منغمس بالاستهلاك والماديات، فكثرة الدلال في مجتمع الرفاهية كثيراً ما تنسف حتى أبجديات التعامل مع الآخرين من احترام للوقت والوفاء بالعهد وغيرها من البدهيات، وتتفاوت قدرة الأشخاص على الاستقلالية والاستغناء، لكن الاكتفاء الذاتي هو الأسلم في زمن تنتهي فيه الصداقات بكبسة زر «البلوك»، فالعلاقة الوحيدة التي ستدوم مدى الحياة هي علاقة المرء بنفسه، حيث قد يسلبنا الموت أو الظروف- أو سوء التفاهم حتى- الكثير من العلاقات الإنسانية الثمينة، لذا فإن الإحسان إلى الآخرين مع خفض سقف التوقعات قد يكون الحل الأفضل للتعامل معهم، فهو يحمينا من خيبة الأمل قبل كل شيء.
وأما ترك المسافات المناسبة فهو فن خاص يحفظ المودة ويجعلنا نرى أجمل ما في الآخرين، فقضاء الوقت مع الأصدقاء والزملاء بـ«الجرعات» المناسبة مهارة خاصة تمنع حدوث اللغط وتبقي على المتعة والتجدد في كل لقاء، فما أجمل أن تكون ضيفاً خفيفاً! ونحتفظ هنا بالأحاديث العميقة الممتدة لساعات طويلة للأصدقاء المقربين فقط، ففي تلك الأوقات الخاصة غذاء للروح ومساحة حرة لتسرح فيها كما تشاء.
في مسرح الحياة هذا نجد أنفسنا نقوم بأداء أدوار متعددة على مر الزمن، فعلى سبيل المثال، موظفة اليوم قد تصبح أماً في الغد، والمرأة ذاتها كانت طفلة ومراهقة في الأمس، وتختلف تجاربنا وطريقة نظرتنا للحياة باختلاف أدوارنا ورؤية الآخر لنا وتفاعلهم معنا، فكلنا مرآة للآخر، وأغلب أدوارنا الاجتماعية مؤقتة بشكل أو بآخر، وهنا تظهر ضرورة التعرف على الذات ومعرفتها حق المعرفة بعيداً عن القوالب الاجتماعية والأدوار المتوقعة منها، فخلف كل هذه القشور تقبع الذات الحقيقية بانتظار من يكتشف بواطنها، فهل من مجيب؟