مع إغلاق بتكوين عند مستويات 45 ألف دولار، بنمو بلغت نسبته 154 في المئة خلال العام الماضي، حفلت الإصدارات الاقتصادية المعتبرة بتوقعات عن أداء العملة المشفرة الأكثر انتشاراً خلال العام الحالي 2024 تشير أغلبها إلى أنها ستتجاوز مستويات الـ100 ألف دولار وصولاً لـ150 ألفاً.
أغلبية هذه التوقعات استندت في الأساس إلى تحليلات فنية حول علاقة بتكوين بالدولار أو الذهب أو النفط أو مؤشرات أسواق الأسهم كـ«داو جونز» أو حتى بالسياسات النقدية للبنوك المركزية، تحديداً فيما يتعلق بأسعار الفائدة.
اللافت أن معظم المصادر التي نشرت هذه التوقعات، سبق أن نشرت توقعات مماثلة مع الفورة السابقة لبتكوين حين تجاوزت مستويات الـ60 ألف دولار، كما سبق أن نشر بعضها توقعات بانهيار العملات المشفرة على اعتبار أنها فقاعة ستنفجر في أي لحظة، إلا أن الأداء التاريخي لهذه العملات أثبت حقيقتين مهمتين.
أولاهما، أنها ليست فقاعة ولكنها أقرب إلى استثمار عالي المخاطر يصعد ويهبط بناء على معطيات أساسية وتحليلات فنية منطقية جداً.
أما الحقيقة الثانية فهي أن العملات المشفرة، كأداة استثمار، ليست مرتبطة بأي شكل من الأشكال بالدولار أو بسلع بعينها كالذهب والنفط أو حتى بالسياسات النقدية، إلا في أضيق الحدود، وهو ما يرجع بشكل عام إلى خصائص هذه العملات كأداة استثمار بديل، فهي في الأساس عملة رقمية لا مركزية تعمل بشكل مستقل عن أي بنك مركزي أو حكومة ولاتزال خاضعة لعدم اليقين التنظيمي.
ذلك مفاده أن العملات المشفرة لها معطياتها الأساسية وتحليلاتها الفنية المنفردة، إذا صح القول، فهي بشكل عام تتأثر بمجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك طلب المستثمرين، والتغيرات التنظيمية، والتطورات الجيوسياسية.
ففيما يتعلق بالتحليل الفنين سنجد أن صعود وهبوط بتكوين منفصل عن أداء المؤشرات السابق ذكرها بشكل مطلق، فهي تتحرك منفردة طبقاً لظروف العرض والطلب وجني الأرباح، وبنظرة سريعة على الأداء المقارن مع تلك المؤشرات، خلال العام الماضي، سنجد أنها حققت نمواً بنسبة 154 في المئة، بينما تكبد مؤشر الدولار خسارة بنسبة 2 في المئة خلال نفس العام، أما الذهب فقد حقق نمواً بنسبة 13 في المئة فقط، بينما تراجع خام برنت بنسبة 10 في المئة، وبالنسبة لمؤشرات الأسواق فقد حقق «داو جونز» نمواً بنسبة 14 في المئة، وناسداك بـ43 في المئة، بينما حقق s&p 500 نسبة نمو بلغت 24 في المئة.
أما من ناحية التحليل الأساسي، فإذا راقبنا الأداء التاريخي لبتكوين، لوجدنا أنها تكره الاستقرار والظروف المثالية المناسبة لنمو الاستثمارات التقليدية، إذ حققت طفراتها في الظروف الاقتصادية الاستثنائية، وارتبطت بشكل وثيق بمرحلة الركود الاقتصادي، وتحديداً مع انتشار جائحة كوفيد 19 منتصف 2020 حين تجاوزت مستويات 60 ألف دولار، الذي كان تحولاً جذرياً للعملة من مرحلة عملة المضاربة إلى مرحلتها الحالية كعملة أصول حينما توفرت لها الظروف المثالية لجذب شريحة هائلة من المستثمرين، نظراً لغلق معظم اقتصادات العالم، وتحجيم العديد من الأنشطة الاستثمارية، الذي جاء متزامناً مع خطط التحول إلى الاقتصاد الرقمي، مما جعلها متنفساً استثمارياً بامتياز.
ومن هنا نستطيع القول، إن المعطيات الأساسية التي من الممكن أن نستند عليها في توقعاتنا لأداء العملة في 2024 تتمثل في الظروف الجيوسياسية الحالية، التي تعد ظروفاً مثالية لصعود العملة، كالحرب في شرق أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، وإن فقدت بعض الضوء لمصلحة الحرب في غزة وما لها تداعيات تتعلق بالمسارات التجارية، تحديداً، الهجمات التي تتعرض لها السفن في مضيق باب المندب، التي أثرت بشكل كبير على حركة التجارة المارة في قناة السويس، الشريان التجاري الحيوي والأهم في المنطقة.
أيضاً، من الضروري مراقبة تطورات متحور كورونا الجديد JN.1 سريع الانتشار، ورغم أن احتمالات عودة الإغلاق الاقتصادي مستبعدة إلى حد ما لكنها تبقى محتملة أو على الأقل بشكل جزئي، وهو ما سيكون وضعاً مشابهاً لأوضاع 2020 التي حققت فيها العملة مستوياتها القياسية. وكذا مراقبة تسونامي اليابان الذي قد يوقف يؤدي إلى توقف العديد من الأنشطة التجارية والاستثمارية في شرق آسيا.
كل ذلك بالإضافة إلى أن 2024 من المقرر أن يكون عاماً «انتخابياً كبيراً»، حيث يتجه سكان أكثر من 75 دولة إلى صناديق الاقتراع، ومن بين تلك الدول كل من المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وروسيا، والهند، وتركيا وغيرها. ومن الأكيد أن الانتخابات الرئاسية الأميركية ستكون أهمها، وستهيمن على اهتمام المستثمرين خلال العام الجديد، مع الأخذ في الاعتبار احتمالية تحركات السوق العالمي، خصوصاً إذا أُعيد انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب مع أجندته الجديدة التي ليست من الضروري أن تكون «صديقة للسوق»، ومن ثم قد يعني ذلك انصراف المستثمرين عن أسواق وأدوات استثمارية بعينها، مما يصب في النهاية لمصلحة الاستثمارات البديلة مثل بتكوين وأخواتها.
واتساقاً، فإذا أضفنا كل تلك الظروف إلى الظرف الرئيسي الذي يمر به الاقتصاد العالمي من ركود محتمل يعقب عملية التشديد القاسية للسياسات النقدية، فنحن أمام ظرف مثالي لنمو كبير وواضح في أداء العملات المشفرة.
ختاماً، هذه ليست دعوة أو توصية للاستثمار في بتكوين، ولا تحليلاً يتوقع مسار العملات المشفرة وأداءها خلال العام الحالي، بقدر ما هو إقرار واقع استنادها إلى معطيات أساسية وفنية منفردة بعيداً عن المحركات النمطية للاستثمارات التقليدية، أو ارتباطها بمؤشرات بعينها كالعملات والسلع وأسواق الأسهم السابق ذكرها.