تسمع الطفل أو الطفلة والألم يعصر قلوبهم على فقدان الأقرب والأعز والأحب ويبقى قلبك يرجف وجعاً، ثم تأتيك امرأة غزاوية لتردد «ما راح نترك أرضنا»، وهي التي هجرت مرة ومرتين وثلاث والقادم لا يوحي بأي عودة إلى ذاك البيت الذي تحول الى كتلة من ركام، والأب يقطع بعض شعرات من رأس طفلته الناعمة، ويقبلها ثم يلحفها بالكفن الأبيض كما هي بياض في بياض.

تأتيك أصوات أطفال يغنون «باقيين هون» أو يرقصون على أنغام الدبكة أو حتى يضحكون فقط، وتتساءل: «كيف يستطيعون الضحك أمام كل ما يعيشونه؟». إنها غزة وهم الفلسطينيون يعلموننا كلنا معنى الحياة كما يجب أن تكون لا كما رسمها أحدهم، وكرسها آخرون مثله، وسار عليها الرعاع، أي نحن، نعم كلنا رعاع أو قطعان تسير في مواكب مزدحمة حول قطعة هنا أو مكسب هناك أو حتى شنطة يد أو فستان أو أي شكل من اللبس أو الأكل أو الشرب أو العطور أو السيارات والإكسسوارات، كلنا أصبحنا عبيداً لبعض مظاهر يرسمها صانعو كل هذه السلع، أليست هي في نهاية الأمر سلعاً بل هي سلع للاستهلاك لا للبقاء على الحياة أو المحافظة عليها؟ أو ربما هي وسيلة للترقي في السلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضا... كلها مترابطة؟

Ad

كيف أسقط الغزاوي طعم تلك الرائحة أو ذاك المطعم الفخم أو الشنطة التي يعادل سعرها مرتب موظف محترم لأشهر، بل كيف أصبحنا نعشق الخبز الذي يعجن على بقايا حطام بمعنى بعض حجر وأخشاب من ركام ذاك المنزل، بل هي أخشاب خزانة شام الصغيرة الجميلة تلك التي لم تتمكن من حمل كل ألعابها وحليها وصورها وكتبها ودفاتر رسمها، شام ركضت لتتعلق بالبالطو الزهري فشام تحب ألوان الورد، وحملت مقلمتها ودفتر ألوانها وبعض دمى أو ربما هي دمية واحدة، وتركت كل الذكريات لتتكوم مع كثير من صور وذكريات جيرانها وأهلها وأحبتها، وبقيت قطع خشب خزانتها الصغيرة التي تحولت إلى فرن لصناعة الخبز الطازج في صباحات غزة المنكوبة بصواريخهم وقذائفهم وطائرات «الدرون».

تمسح شام كما غيرها من طفلات غزة دموعهن بأكمام ملابسهن، وهن يرجفن من الخوف والجوع ووجع الفراق، سامية تقول «استشهدوا كل صاحباتي في الصف والمدرسة اتهدمت» لكنها تمسك بكتبها أو ما استطاعت أن تنقذه منهم، وبعض أقلام ملونة ومنها لون خديها رغم خدوش الجراح الناتجة عن القصف الذي أنزل سقف بيتهم فوق كل النائمين في ليلة اشتد فيها الضجيج حتى تحول إلى مشهد من فيلم رعب لم تعرفه إلا عندما كان والداها يتابعان بعض أفلام هوليوود في ليلة خريفية ممطرة.

أسقط أهل غزة معنى الجوع والعطش والاحتياج كل الاحتياج للطعام أو الشراب أو الملبس أو المسكن أو الحياة الكريمة، أسقطوه من حساباتهم وخيمهم تغرق في شبر مطر، حتى عندما سبحت فرشهم الإسفنجية فوق بحيرة المطر ردد ذاك الطفل الغزي الجميل «كنت عطشاناً فأرسلت السماء ماءها»... خالد وزياد وأحمد ومحمد كلهم يعرفون أن السماء والطبيعة أكثر رحمة من البشر حتى القريبين جداً منهم.

ببعض قطرات مطر ورغيف فوق قطع خشب وقطرات من زيت الزيتون ورشة زعتر يعيش الغزي لأيام دون أي طعام آخر، والأطفال يحلمون بقطع من الشكولاتة والبسكويت لكنهم لا يزالون يرقصون فرحاً عندما تمنح الحياة فرصة، ويبتمسون للمصورين ويتحدثون بكثير من الطلاقة والقناعة التي يندر أن ينطق بها أطفال العرب كلهم ليعلمونا جميعاً دروساً في المعنى الحق للحياة، بل في فن الحياة بكرامة بعيداً عن المكرمات وطوابير المنح، وكل التنازلات التي لا تنتهي عند التخلي عن بعض العزة والتحول إلى متسولين بلقب مواطن، أو هو عودة للرعية كما كانوا يكتبون في بطاقات الهوية القديمة التي أصبحت مواد لمتاحف تكتظّ بقصص كثير منها مزور أو ملفق أو ربما فيه بعض الكذب المغلف بالسوليفان، كم من درس سنتعلم منكم أهلنا في غزة ولسنا وحدنا من ستعلم، بل كثيرون في بقاع الكون الذين رددوا نحن لسنا مقاطعين لهذه البضاعة أو تلك بل نحن مسستغنون عنها حتى ما بعد تحرير فلسطين، كل فلسطين.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.