رحيل أحد الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي
تشغل الأحداث في الشرق الأوسط، وبخاصة الأوضاع المأساوية في قطاع غزة، الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية ليس في بلدان العالمين العربي والإسلامي فقط، بل أيضاً في العديد من البلدان بمختلف القارات.
ولم تهتم هذه الأوساط في البلدان العربية إلا نادراً، بخبر رحيل الفرنسي (جاك دولور) الذي شغل منصب رئيس المفوضية الأوروبية إحدى هيئات الاتحاد الأوروبي، لمدة عشر سنوات (1985-1995)، وهي أطول فترة بقاء في هذا المنصب شغلها حتى الآن رئيس لهذه المفوضية، وإذا كانت شخصية هذا السياسي الفرنسي الأوروبي مجهولة في هذه البلدان فذلك لا يمنع من أن غالبية سكانها سمع أو يعرف العملة الأوروبية (يورو)، وليس غريباً عليهم ما يُعرف بالتأشيرة الأوروبية (شينغن) التي تسمح بزيارة العديد من البلدان الأوروبية حتى تلك التي ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي مثل سويسرا. ويأتي هنا ذكر جاك دولور ومختلف أدواره السياسية والاقتصادية والثقافية لأنه هو الذي بدأ بمشروع الاتحاد الاقتصادي والمالي للاتحاد الأوروبي والذي كان اعتماد عملة اليورو أحد دعائمه، كما أنه كان وراء التوقيع على الاتفاقيات التي أثمرت تأشيرة شينغن، ويعود له الفضل أيضاً باعتماد البرنامج التعليمي الثقافي (ايراسموس)، ويعمل هذا البرنامج في خدمة التعليم المدرسي، والتعليم العالي، والتأهيل المهني، والشباب، والرياضة، في دول الاتحاد الأوروبي، ويشجع على انتقال الطلبة بين مختلف الجامعات الأوروبية لاكتساب المعارف والحصول على الشهادات المعترف بها في دول هذا الاتحاد، وتصل ميزانيته حالياً لحدود 26 مليار يورو، ولعلنا نتمنى هنا على المنظمات الإقليمية في عالمنا العربي مثل جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، واتحاد المغرب العربي، أن تطلع وتستفيد من تجارب هذا البرنامج وتعمل على تطبيق بعض جوانبه وبخاصة في مجال التعليم والتأهيل في الدول الأعضاء بتلك المنظمات وحسب الإمكانات المادية المتاحة لها.
توفي جاك دولور في 28 ديسمبر من العام الفائت، أثناء نومه في منزله بباريس، عن عمر يناهز 98 عاماً، ونعته ابنته الوزيرة السابقة وعمدة مدينة ليل حالياً والتي تقع في شمال فرنسا، ولم يتأخر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وطاقم وزرائه وعدد من السياسيين الفرنسيين والأوربيين بالإشادة بهذا السياسي الفرنسي المحنك والمخضرم والذي شغل منصب وزير الاقتصاد بين أعوام 1981-1984 في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، والذي رفض أيضاً الترشح عام 1995 لشغل منصب رئيس الجمهورية الفرنسية على الرغم من الشعبية التي كان يحظى بها في مختلف الأوساط، وهو الموقف الذي اتخذته ابنته أيضاً عام 2017 رافضة الترشح لهذا المنصب.
وكرم ماكرون ومعه فرنسا وأوروبا رئيس المفوضية الأوروبية سابقاً، وحضر مراسم التكريم التي جرت في الخامس من هذا الشهر وفي ساحة قصر ليزانفاليد أو قصر معطوبي الحروب الذي تم تشييده في باريس عام 1677، العديد من الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين ومن الطلبة والباحثين الذين استفادوا من برنامج ايراسموس. سجل تاريخ الاتحاد الأوروبي وذلك على مدى قرابة سبعة عقود خلت، أسماء العديد من الشخصيات الأوروبية التي تُعّد من الآباء المؤسسين لهذا الاتحاد التي بدأت خطواته بفضل تأسيس كيان اقتصادي وصناعي عُرف باسم (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب) في عام 1955، وصولاً إلى ما أصبح يُعرف باسم (الاتحاد الأوروبي) بفضل اتفاقية (لشبونة) نسبة إلى العاصمة البرتغالية التي تم فيها اعتماد هذه الاتفاقية عام 2003، والتي بدأ تطبيقها عام 2009.
ويتم النظر اليوم لجاك دلور كواحد من الآباء المؤسسين لهذا الاتحاد إلى جانب كل من الفرنسيين، روبير شومان (1886-1963)، وجان مونيه (1888-1979)، ويجب ألا ننسى أسماء الرؤساء الفرنسيين والسياسيين الأوروبيين الذين أدوا أدواراً مهمة في تاريخ هذا الاتحاد من أمثال الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان والمستشار الألماني هولمت شمت، وكذلك الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران والمستشار الألماني هولمت كول. لقد رحلوا جميعاً ولكن ما عملوا على تشييده من خلال الاتحاد الأوروبي ومختلف مؤسساته وسياساته ونشاطاته العديدة لا يزال قائماً شاهداً على مصداقية وجدية وفعالية الجهود التي بُذلت من أجل قيامه.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا