سلّطت أحداثُ الأسابيع الماضية الضوء على الكيفية التي يُلحق بها سلوك الولايات المتحدة المتساهل واللامبالي تجاه السياسات الإسرائيلية الضرر بمكانة أميركا في العالم، فقد أظهر تصويتان في الأمم المتحدة يدعوان إلى وقف إطلاق النار في غزة تخلي أغلب حلفائنا عن الولايات المتحدة، في وقت أخذ فيه الكثير منهم يطرحون الأسئلة على نحو متزايد بشأن قيادتنا للعالم.
فبعد أكثر من شهرين لا يزال القصف الإسرائيلي للفلسطينيين في غزة مستمراً بلا هوادة، إذ وصل عدد القتلى إلى ما يناهز 20 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، وقد أدى القصف الإسرائيلي في شمال غزة إلى تحويل أكثر من نصف القطاع إلى أنقاض، في حين أرغم قرابة مليوني فلسطيني على الفرار من منازلهم، وبعد الهدنة الإنسانية القصيرة لتبادل الرهائن والأسرى، نقلت إسرائيل حملة القصف إلى الجنوب، حيث تدعو الأوامر اليومية الفلسطينيين إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى، ليفاجَأوا بتعرض المناطق نفسها التي أُمروا بالانتقال إليها للقصف، وفي المخيمات المؤقتة في جنوب القطاع، يتفشى الجوع والمرض، كارثة إنسانية يفاقمها سلوك إسرائيل الذي لا يمكن أن يوصف إلا بالإبادة الجماعية.
وأمام حجم هذه الأزمة، قدّمت بعثة الإمارات العربية المتحدة إلى الأمم المتحدة قراراً إلى مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية، قرار حظي بتأييد 103 دول شاركت في رعاية القرار، وبالمقابل، استغلت الولايات المتحدة الوقت الذي سبق التصويت على نحو مثير للانزعاج في بذل قدر كبير من رأسمالها السياسي لحثّ بلدان أخرى على التصويت بـ«لا».
ولكنهم فشلوا، وقد عكس التصويتُ النهائي مدى عزلة الولايات المتحدة، إذ أيّدت 13 دولة وقف إطلاق النار، في حين عارضته الولايات المتحدة، وامتنعت المملكة المتحدة عن التصويت، وبعد يوم واحد على ذاك التصويت، جاء مزيد من الأدلة على عزلة أميركا عندما حصل قرار غير ملزم لوقف إطلاق النار قدم في الجمعية العامة على تأييد 153 صوتاً، في حين صوتت الولايات المتحدة و9 دول أخرى فقط بـ«لا».
الولايات المتحدة فسّرت استخدامها الفيتو ومعارضتها القرار بالقول إن هذا الأخير قدّم بشكل متسرع ومن دون وقت كاف للتشاور، وهو ما يخالف الحقيقة على نحو واضح ومحرج، على اعتبار أن الأزمة الإنسانية في غزة متواصلة منذ شهرين والقرار الإماراتي يُتداول في أروقة المجلس منذ عدة أيام، مما أتاح وقتاً كافياً للمناقشة، وبدلاً من التفاوض، ركزت الولايات المتحدة على الضغط على البلدان للانضمام إلى معارضتها، وبالتالي، فإن ما هو واضح للعالم هو عدم رغبة إدارة بايدن في الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وهناك عاملان آخران يعززان هذا الاستنتاج، فبعد يوم على تصويت الأمم المتحدة، أعلن البيت الأبيض قراره أحادي الجانب بإرسال 14 ألف قذيفة مدفعية إلى إسرائيل دون إشعار الكونغرس أولاً، بمعنى آخر، لم يكن لديهم الوقت الكافي لبحث إمكانية وقف إطلاق النار، لكنهم لم يكونوا في حاجة إلى أي وقت على الإطلاق لإرسال مزيد من الأسلحة الفتاكة إلى إسرائيل في انتهاكٍ لرقابة الكونغرس الضرورية بموجب «قانون مراقبة تصدير الأسلحة».
وفي تجمع أقيم مؤخراً في البيت الأبيض بمناسبة عيد «الحانوكا» اليهودي، تحدّث الرئيس بايدن عن حبه لإسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها، وتعهد الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب إسرائيل دائماً، ثم انتقل بعد ذلك إلى ما بدا أنه انتقاد لسلوك إسرائيل في الحرب و«قصفها العشوائي» في غزة، ولكن قبل أن يتصوّر أي شخص أن هذا الكلام يمثّل نقطة تحوّل في الموقف الرسمي، «قلّل» أحد المتحدثين باسم الإدارة الأميركية في اليوم التالي من تصريحات الرئيس، في حين قال آخر إن إسرائيل أكثر حذراً ودقةً في حملة القصف في جنوب القطاع.
وبدلاً من التعامل بجدية مع الخسائر الكبيرة في الأرواح الفلسطينية والظروف القاسية جداً التي يجبر الناجون على العيش فيها، تُواصل الولايات المتحدة منح الأولوية للهدف العسكري الإسرائيلي الخيالي المتمثّل في «القضاء على حماس»، ولهذا، يعد صناع القرار في الولايات المتحدة الدعوات لوقف إطلاق النار مشوِّشة، وهنا أتذكرُ حديثاً لي أجريته مع مسؤول رفيع المستوى في إدارة بايدن بعد بضعة أسابيع على بدء هذه الحرب قال لي فيه، مكرراً العبارات الإسرائيلية، إن «وقف إطلاق النار لن يكون مقبولاً لأنه لن يؤدي إلا إلى منح حماس الوقت لإعادة تسليح نفسها»، وعندما أشرتُ إلى عدد الوفيات والدمار في غزة، قال لي: «ذاك أيضاً أمر لا يطاق»، فأجبته: «إذاً هناك أمران لا يطاقان ولكنك اخترت الأمر الذي ما زال يكلّف مزيداً من أرواح الفلسطينيين».
هذا الحوار أجري عندما كان عدد القتلى في غزة يبلغ 3000 شخص، والآن يتجاوز العدد الـ20 ألفاً في وقت ضاق فيه العالم وجزءٌ كبيرٌ من الرأي العام الأميركي ذرعاً بحرب إسرائيل والدعم الأميركي لها. ولهذا، فإن الإدارة الحالية تلحق ضرراً بالغاً بمكانة الولايات المتحدة ومصداقيتها والقيم والمبادئ التي ندّعي الدفاع عنها.
وختاماً، إذا كان الرأي العام الأميركي والعالمي يتغير بشأن السلوك الإسرائيلي، فإن السياسة الأميركية باتت عالقةً ومعزولةً على نحو متزايد.
* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن