كنت أجهل الجانب الروائي في شخصية الفنانة التشكيلية ثريا البقصمي حتى قرأت روايتها «تفاحة في هودج»، التي أدخلتني بخيالها الخصب في عالم تجار العبيد في الكويت والخليج، وبوصفها الذي لم أستطع مقاومته حتى السطر الأخير، ومن سوق العبيد ذلك المسمى الذي أطلقه الناس على مكان بضاعته مزروعة بالخوف، أفواه مكممة وأجساد مسروقة، حكاية بنت أرمنية وأخرى سودانية وغلام صومالي، تصور إحساساتهم وأمكنتهم بلغه وأسلوب مشوق، وفي لحظات تشعر وكأن ما ترويه يحدث أمام عينيك.
ثلاثة دكاكين متلاصقة، دكان النخاس شملان متخصص ببيع العبيد الأفارقة، ودكان شاهين خبرته ببيع الجواري والغلمان، وعلى اليمين نصف دكان لإنهاء معاملات وعقود البيع والشراء... تجارة بشعة تنال مباركة الجميع، وكل بضاعة تحتاج الى واجهة عرض والمصطبة الخشبية العريضة تتوسط الباحة هي مسرح عرض المسروقات.
من سلطان الحبشي الحارس الليلي للسوق الداخلي إلى سيتا الأرمنية وشقيقتها ميرال التي وصلت إلى البصرة هروبا من قريتها في إقليم الأناضول تصف رحلة العذاب، ومن خلف ستائر الهودج كانت تراقب الطريق القاحل والرمال المبعثرة كالأرواح الممزقة، كانت عبارة عن «تفاحة في هودج» ليستقبلها سور طيني يطوق المدينة وبيوتها المتراصة، ارتفعت فيها أصوات «وصلنا الكويت».
تنتهي الرواية بلقاء سيتا بشقيقتها، دخلتا في حالة عناق، ارتفع نحيبها، حدثت المعجزة لقد عادت التفاحة الى نصفها المفقود.
رواية ثريا أعادتني الى كتاب الباحث الدكتور هشام العوضي مرة ثانية لتصفحه من جديد ومن وحي الوصف الذي أجادت به في روايتها في كتابه «تاريخ العبيد في الخليج العربي»، الذي اعتمد فيه على الوثائق البريطانية التي تتناول تاريخهم منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى انتهاء نظام الرق على يد البريطانيين.
صاحب الكتاب ناله الكثير من الانتقاد عن الغاية والهدف من الإصدار، وجوابه حان الوقت لتسليط الضوء على تلك الفترة الحالكة من التاريخ، وإعادة نشر آلام هذه الشريحة من المجتمع الذين وصل عددهم إلى نحو مليون رجل وامرأة عاشوا في المنطقة، وتركوا أثرهم في اللغة والطقوس والعادات والطعام واللباس،
فهو يرى أن الإضاءة على تاريخهم تهدف الى إدانة الظلم الذي تعرضوا له وإبراز دورهم في الاجتماع والاقتصاد في تلك المرحلة من تاريخ الخليج العربي الاجتماعي.
كتاب العوضي فتح الباب على الجانب المهمش من حكاية العبيد ولم يغلقه، فقد صدر عام 2021، وجاء بعده كتاب يماثله الى حد كبير صدر عام 2023 بعنوان «الرق وتجارته في الخليج العربي» للمؤلف خالد السعدون عن «دار سطور للنشر» في بغداد، الذي يستشهد بمحاضرة للعوضي حول مبادرة قامت بها قطر تخطت فيها حاجز الصمت حين أقامت في عاصمتها متحفا يوثق تجارة العبيد التي جرت، ويثني على كتاب العوضي وكتاب الروائية الإماراتية وداد خليفة في روايتها «زمن السيداف».
غاية السعدون الوقوف على الجوانب التي أهملت أو لم تحظ بقدر كاف من الباحثين لدراسة تغطي المرحلة من سنة 1908 الى 1950، اعتمد فيها على مجموعة مصادر منها الوثائق البريطانية في مكتبة قطر الرقمية وموسوعة دليل الخليج، أما توقفه عند عام 1950 فمرده أن تجارة الرقيق لفظت أنفاسها في هذا العام.
دراسة السعدون تسعى لنقد ذلك الوهم والحث على هتك ستار الكتمان التي أنزلت على هذه القضية المسكوت عنها، فقد تم النظر الى الرق وتجارة العبيد الى أنها مؤسسة قائمة في مجتمعات الخليج العربي وكانت ركنا أساسيا من حياة ذلك المجتمع في مرحلة ما قبل النفط.
الكتاب تضمن خمسة فصول شملت تجارة العبيد في السعودية، وعمان، والساحل المتصالح، والبحرين، وقطر، والكويت، والوضع العام للرق وتجارته في منطقه الخليج.
رواية ثريا وكتاب هشام ودراسة خالد أغنت المكتبة الخليجية والعربية بحكايات العبيد وعتقهم وما آلت إليه تلك التجارة المنافية لكل آدمية الإنسان وكرامته.