انتقل عبدالله الصالح بعد النجاح بتفوق في المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية المنحصرة آنذاك 1955-1956 بثانوية الشويخ العتيدة، التي تركت بدورها مرحلتها الثانوية بعد عقود، لتتحول إلى جامعة الكويت، ثم إلى جامعة ثانية! لم تكن الكويت آنذاك في وضع مشابه للعديد من الدول النامية الأخرى، بل كانت تتفاعل فيها قوى ومؤثرات أبرزها الثروة البترولية التي كانت تغيّر ملامح المجتمع الكويتي من الداخل والخارج بسرعة خارقة، وكان الناس يهجرون الفقر والاقتصاد البحري والبري المعتمد على الغوص والرعي إلى العمل الحكومي والتوسع التجاري، حيث استطاع النفط تغيير كل جوانب الحياة في النهاية.
ولم يكن التعليم أقل تأثيراً، حيث تزايدت المدارس بمختلف مراحلها، وشملت الذكور والإناث فأدى انتشار التعليم بدوره إلى تراجع الأمية، وإلى تطور الإعلام وبخاصة الصحافة والثقافة العامة، ومن الأمور التي استجدت في المجتمع الكويتي يومذاك، وكان لها تأثير لا يقل خطورة وأهمية، انفتاح البلاد على الهجرات الواسعة وتغيير العادات والتقاليد، وغير ذلك.
ولما كان الكثير من القادمين والمدرسين، خصوصاً من دول عربية كمصر وفلسطين وسورية والعراق وغيرها، وكان العالم العربي وقتئذ مشتعلاً بالأفكار السياسية والنشاطات الحزبية والتوجهات من كل لون، كان هذا من المؤثرات القوية في ظهور مختلف التيارات السياسية في الكويت. يقول «عبدالله الصالح» في مذكراته، بشيء من حماس تلك الأيام الذي لا نكاد نجد له اليوم إلا أدنى أثر، يقول: «عندما نسترجع ذكريات ثانوية الشويخ نقف كثيراً عند عام 1956م، حيث تعود بنا الذاكرة إلى خطاب الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» في الإسكندرية يوم الخميس 26 يوليو من العام ذاته، حين أعلن لجماهير الأمة العربية وبلهجة مصرية عذبة أن قناة السويس قد عادت إلى مصر، عادت إلى أصحابها الشرعيين». (ص27).
كان العالم العربي خارجاً للتو من كارثة «نكبة 1948» في فلسطين بعد خسارة مدمرة للثقة بالنفس والأنظمة السياسية، وكانت الجماهير تبحث بحرارة عن قائد وزعيم يحقق لها الانتصار المنشود على إسرائيل واليهود والاستعمار وينجز «الوحدة العربية»، وكانت مصر تعيش بدايات «ثورة 23 يوليو»، وما يعزز النظام الجديد المنبثق في العالم العربي وفي مصر بالطبع، وكانت الكويت بعد سورية أو العراق، من بين الأكثر حماساً للشعارات القومية والقضية الفلسطينية والأكثر التفافاً في مختلف المناسبات حولها، وكان قرار تأميم القناة، كما يقول «الصالح»، القرار الذي «ألهب مشاعر الأمة العربية من المحيط إلى الخليج»، وهكذا تنادى عدد من المؤيدين إلى تنظيم لقاء، يضيف الصالح، «لقاء جماهيري خطابي في ملاعب ثانوية الشويخ حضره جمع غفير من المواطنين، دفعهم الحماس الوطني إلى الخروج في مسيرة شعبية، وهم يحملون صور الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر»، ويهتفون بحياته وحياة الأمة العربية. وينددون بالمستعمرين والمتخاذلين من أبناء الأمة العربية، وهنا حصلت مواجهة بين الجماهير المتحمسة والسلطات الأمنية، مثلما حصلت مواجهة ثانية بعد شهور بين قوى الأمن والجماهير الكويتية التي خرجت في تظاهرة سلمية تندد بالعدوان الثلاثي على مصر... هذا الموقف القومي تكرر عام 1959م بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الوحدة بين مصر وسورية».
كانت «ثانوية الشويخ» في تلك السنوات أكثر من مجرد ثانوية للتعليم بل كانت مصهراً أو بوتقة للقيادات الكويتية الجديدة التي ستؤثر بقوة في الهوية الوطنية والتوجهات السياسية للدولة بعد الاستقلال عام 1961، وهي كذلك السنة التي شهدت بعد «أزمة قاسم» أول صدمة للكويتيين وبشكل محرج مع الفكر القومي والوحدة، ويصف «عبدالله الصالح» هذه الثانوية في عقد الخمسينيات بأنها، «لم تكن مدرسة للتعليم فحسب، بل كانت جامعة مفتوحة للكويتيين وغير الكويتيين من أبناء الأمة العربية، ولكل مفكري ومثقفي الكويت، فالأساتذة كانوا على درجة عالية من الكفاءة والثقافة والخبرة والتخصص، بينهم كويتيون– الأساتذة إبراهيم الشطي، سليمان المطوع، علي زكريا الأنصاري، ومعجب الدوسري- كذلك بينهم الأساتذة المصريون والأساتذة الفلسطينيون.
نالت الفنون اهتمام ثانوية الشويخ وذلك عندما أنشأ الأستاذ «علي زكريا الأنصاري» نادياً طلابياً لسماع الموسيقى الكلاسيكية وإجراء حوارات حول مضامينها وظروف تأليفها، وعن الفنون التشكيلية «معجب الدوسري»، يقول الصالح، إنه «كان مدرسة فنية متنقلة بين الفصول الدراسية، مثلما كان قبله الأستاذ خليفة القطان أستاذنا في مدرسة النجاح».
وكانت الجماعات والتيارات الكويتية السياسية تتناقش وتتصارع كلما سنحت الفرصة، حيث «كان الحوار حول موضوع المحاضرة يتسم بالهدوء تارة والحدة في الطرح تارة أخرى»، وذلك في أعقاب المحاضرات المثيرة للجدل والتي كانت ثانوية الشويخ تشهد بعضها.
كانت ثانوية الشويخ في الحقيقة أكثر من هذا! يقول الصالح: «بل كانت مدينة جامعية تضم ملاعب متعددة الأنشطة، وثلاثة أندية: أحدها للمدرسين المتزوجين وعائلاتهم، وآخر للمدرسين العزاب، والثالث للطلبة، بجانب مطبخ مركزي ومطعم ضخم، تعلمتُ فيه لأول مرة كيف أستعمل الملعقة والشوكة والسكين في تناول وجبات الطعام، كما ضمت المدرسة أكبر مصبغة لتنظيف الملابس وكيها، وما على الطالب في القسم الداخلي سوى أن يضع ملابسه في كيس معد لذلك، يرفق به إشعاراً يوضح الاسم ورقم البيت ورقم العنبر ورقم السرير. كما كان في المدرسة مستوصف كبير أقرب ما يكون إلى مستشفى، يضم عدداً من الأسرة لاستقبال الحالات الطارئة». (ص35).
كانت المحاضرات تُعد بين دائرة المعارف (وزارة التعليم) وإدارة المدرسة، فكان مسؤولو الوزارة الكبار بعض أبرز ضيوف محاضرات ثانوية الشويخ، إلى جانب كبار الشخصيات السياسة والاجتماعية، وكانت هذه المحاضرات والندوات مجالاً خصباً، يقول الصالح، «لتصارع الأفكار بين القوى القومية المتمثلة في حركة القوميين العرب، وتنظيم البعث العربي من جهة، ثم اليسار العربي المتمثل في بعض الشيوعيين والراديكاليين الذين لا ينتمون إلى فكر قومي من جهة ثانية، والحركات الإسلامية المتمثلة في تنظيم الإخوان المسلمين وحزب التحرير من جهة ثالثة، وكان النقاش بين هذه التيارات الفكرية والعقائدية يشتد حول الموضوع أحياناً، فيتعالى الصراخ حتى يكاد يصل إلى حالة تحتاج إلى شيء من الوقار والانضباط». (ص33).
كانت الدراسة والإقامة في ثانوية الشويخ عميقة التأثير في حياة «عبدالله الصالح» فنراه يشيد بها وبعطائها قائلاً: «في هذا الجو الفكري والثقافي الجميل عشت أربع سنوات من العام الدراسي 1955- 1956 حتى العام 1958- 1959م، التحقت خلالها بالقسم الداخلي في المدرسة، ولأول مرة أتعلم أن هناك نظاماً محدداً بالساعات لتقديم وجبات الطعام، وفترتين للمذاكرة الإجبارية، كما أن هناك أياماً لزيارة الأسرة في نهاية الأسبوع، تبدأ عصر يوم الخميس وتنتهي مساء يوم الجمعة».
انتهت المرحلة الثانية أو الثالثة من حياة «الصالح» الدراسية بالتخرج من ثانوية الشويخ، وكانت الخطوة اللاحقة الالتحاق بجامعة «عين شمس» في مصر.