في محاولة لإخفاء غضبه أو ربما خوفه أو بعض خنوعه سألها: «ألم تتعبي؟»، وعندما ردت بسؤال كان تصادم الأسئلة، ردت بالقول «أتتعب من ماذا؟ أو ممن؟»، فكان عليه أن يجيب محافظا على الدرجة نفسها من اللباقة ورباطة الجأش أو ربما التمثيل بأنه هادئ كنهر النيل في ساعات الغروب، وبعد بعض تفكير وبشيء من التذاكي أرجع السؤال إلى مصدره، وهي تقنية يستخدمها كثير من المخبرين أو الضعفاء أو بعض الخائفين أو الخانعين، قال: «ألم تتعبي من مشاهدة القتل والموت والدم على قارعة الطرقات في غزة؟»... بعدها دخلت مع صديقها في حلقة مفرغة من الأسئلة، كانت قد حاولت أن تتفاداها منذ عقود طويلة عندما قبلت أن تبقى الصداقة بعيدة عن القناعات والمواقف أو ربما المبادئ.
تطاير الوقت مع تطاير الأسئلة، وكأنهما في مسابقة طويلة المسافات في كسب الوقت قبل الاصطدام، حتى لم تستطع أن تتحمل، فقالت: «ماذا تقول؟ هل نتعب من مشاهدة موت أحبتنا وأهلنا في غزة؟ وماذا عنهم؟ عن حياتهم اليومية في البحث عن قطرة ماء وربع رغيف خبز، وربما شيء من الابتسامة حتى يمضي اليوم الطويل تحت القصف مدارين خوفهم وفزعهم إن لم يكن على أنفسهم فعلى أحبتهم كل أحبتهم واحبتنا؟».
راح الحوار بعدها في دهاليز الموت والقبور الجماعية والأكفان والأسماء التي تكتب على الأكفان حتى يستطيع الأهل والأحبة أن يتعرفوا على بقعة يذرفوا أمامها كثيرا من الدمع، ويقرأوا الفاتحة أو يرتلوا تراتيل الفقدان والموت، حاول هو في محاولة الظهور ببعض الواقعية التي تحولها هي إلى مجرد «امرأة عاطفية» ككل النساء ألا يقال في أوطاننا إن الدموع للنساء، لكنه ذاك الخارق لكل صورهم الباهتة أو تصاويرهم عنا، ذاك الملتحي والمتشبث بعمامته وابتسامته أيضا، وهو يقبل عيني حفيدته روح الروح، ألم يسقط هو وكثيرون من أهلنا في غزة كل تلك الادعاءات بل الأكاذيب عن أن الرجال عندنا لا يذرفون الدمع فهو من شيم النساء؟!
توغل الحوار بينهما حتى أحست أنهما قد يصلان إلى التصادم أو القطيعة، تلك التي أصبحت الشكل السائد بعد السابع من أكتوبر عندما قال بعضنا إنها ليست إبادة، وهو ليس قتلاً متعمداً ومحاولة للقضاء على شعب جذوره في باطن أرض فلسطين، حينها توقفت هي محافظة على بعض ما تبقى من مودة وسنوات من الصداقة، لكنها لم تستطع أن تكتم بعض غيظها من نمط تفكير بدأ يسود حتى وسط أكثر الذارفين للدمع على دم غزة بل هو دم كل فلسطين، وفي محاولة للتخفيف من ألم اللحظة الذي لا يضاهيه سوى وجع فلسطين الباقي منذ ما قبل 1948، حولت الحوار بينهما، وتفصل بينهما فناجين قهوة وكثير من الألم: كيف تكون الصداقة ما بعد غزة وفلسطين أو أي رفقة دون أن تكون فلسطين بوصلتها؟
وفي حين راح هو يذكرها بأيامهم في الجامعة، وكيف التقيا عندما كان يرى أن الخليجيين القادمين إلى الجامعات هناك كلهم، نعم كلهم، مجرد مخلوقات نفطية تستهلك، ثم تستهلك، ثم تغني وترقص أو تسافر للتبضع في لندن، بقيت هي صامتة تبحث عن أوجه الشبه التي جمعتهم في صداقة ممتدة لأكثر من ثلاثين عاما، صمتها لم يسعده كما كل المتخاذلين أو الخائفين أو ربما كثير من الانتهازيين، راح ينبر الحروب ويشد عليها ليستفزها أو يثير نقاشا حادا ليثبت أنها كما كان يسميها أو يسميهم «الثوريون واليساريون» لا يعرفون النقاش فقط الصريخ، هو الذي كان يصرخ في وجهها عندما كانت تذكره بأن ما تقوله ليس فكرا «ماركسيا ولا يساريا ولا قوميا ولا أي شيء سوى التصاق بإنسانيتها بل إنسانيتنا» أو ربما هو الحق عندما يحاول البعض أن يحوله إلى فكر متطرف بتلاوين التطرف في مفهومهم.
استفاقت من صمتها بابتسامة، وبعد أن حاولت أن تفسر محاولاته الاستفزازية أو تعطيه بعض التبريرات المبنية على سنوات الصداقة، لم تستطع سوى أن تذكره بأن تعبها أو ربما الأصح وجعها لا يرقى إلى مدى أوجاع وتضحيات أهلنا في غزة بل في كل فلسطين، وأنها وكثيرين مثلها من العاجزين في أوطاننا العاجزة أو المتساقطة أو المتآمرة أو حتى الضعيفة، لا يستطعيون أن يفعلوا سوى ذلك، أي أن يستمروا في وضع فلسطين على قائمة أولويات حياتهم في تفاصيلها كلها منذ قهوة الصباح مروراً بكل أكلهم وشربهم ومشاهدتهم وأوقات فراغهم وكل تفاصيل التفاصيل، فعند اختيار الملبس والمأكل ووقت المرح تبقى فلسطين وأهلها بل أهلنا حاضرة، نسأل: هل هذا في مصلحتهم؟ أو هل هذا يبقي شعلتهم التي يقدمون كل ما يملكون بل حياتهم من أجلهم؟ هل ما أقوم به يضاهي أيا من ذلك؟
وبالطبع تكون الإجابة بالنفي، ونسقط جميعا في أضعف الإيمان، وهو أن نبقي إبادتهم على رادارات هذه اللحظة، وأن ننشر وجعهم رغم الألم والدمع، وأن نتسمر ساعات نتابع تفاصيل الإبادة حتى نسجلها فيما يذهب أولئك البعيدون عنهم في أقصى الجنوب الإفريقي أو جنوب إفريقيا لأخذ الخطوة الأهم، وهي إدانة المجرم القاتل الصهيوني بجرمه في الإبادة الجماعية، والقضاء الى الأبد على روايتهم الكاذبة منذ سبعين عاما ونيفا.
فجأة انتفض صديقي من هدوئه المعتاد وسحب هاتفه النقال ورحل ربما دون عودة لم يكن الأول ولا الأخير.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.