الدين والسياسة والصلاح
وصلني من العديد من الإخوة الأعزاء مقال للطبيب والكاتب المصري الكبير علاء الأسواني تحت عنوان «التدين الشكلي» يناقش فيه ظاهرة انفصام الشخصية المجتمعية (social schizophrenia)، الذي أصبح طابعاً عاماً في مجتمعاتنا العربية، وهي ظاهرة تعكس الجهل التام بجوهر الأديان السماوية (holy ignorance) وقد شرح الدكتور الأسواني قصة عمله فى إحدى الهيئات الحكومية الكبرى التي تضم آلاف العاملين، حيث اتضح له من اليوم الأول حالة التشدد الديني بين العاملين فيها لدرجة التوقف عن العمل وترك المريض لأداء الصلاة!!
وقد أدى هذا التصرف إلى الخلاف بين الدكتور الأسواني وبعض العاملين في الهيئة الذين ينقطعون جميعاً عن العمل قبل أذان الظهر بنصف ساعة، ويشرعون في الوضوء وفرش الحصير في الطرقات، استعداداً لأداء صلاة الجماعة، ولم يكن الدكتور الأسواني معترضاً على الالتزام الديني، بل إنه يرى أن يكون الإنسان ملتزماً ومتديناً من الأمور الحسنة والجميلة.
لكن سرعان ما اكتشف أن كثيراً من العاملين بالرغم من التزامهم الصارم بأداء الفرائض الدينية يرتكبون انحرافات جسيمة وكثيرة في إساءة معاملة الناس، والكذب والنفاق وظلم المرؤوسين، وحتى الرشوة ونهب المال العام، وسوء الأخلاق والفساد الإداري والمال في الهيئة.
وقد أوضح الدكتور الأسواني أن ما حدث فى تلك الهيئة يحدث فى معظم الهيئات في عالمنا العربي، حيث يعدّ العالم العربي من أكثر الشعوب تديناً، وفي الوقت نفسه يحتل مراكز متقدمة في الفساد والرشوة والتحرش الجنسي والغش والنصب والتزوير.
ويتساءل الدكتور الأسواني: هل تحول الملايين من رجال الدين في العالم العربي إلى نماذج من «تارتوف» رجل الدين الفاسد الذي يسعى إلى إشباع شهواته الإنسانية الرخيصة وهو يتظاهر بالتقوى؟
ويعتقد الدكتور الأسواني أن المشكلة أعمق من ذلك، حيث يرى أن العرب والمسلمين متدينون فعلاً عن إيمان صادق ويراقبون ضمائرهم فى كل ما يفعلونه ولكن كثيراً منهم يمارسون انحرافات بدون أن تعذبهم ضمائرهم، حيث نجد ضباط الشرطة الذين يعذبون الأبرياء، والأطباء والممرضات الذين يسيئون معاملة المرضى الفقراء فى المستشفيات العامة، والموظفون الذين يزورون بأيديهم نتائج الانتخابات لصالح الحكومة، والطلبة الذين يمارسون الغش الجماعى، معظم هؤلاء متدينون وحريصون على أداء الفرائض الدينية!!
ويقول الدكتور الأسواني: إن المجتمعات تمرض كما يمرض الإنسان، ومجتمعنا يعاني من انفصال العقيدة عن السلوك وانفصال التدين عن الأخلاق، ومن أسباب ذلك النظم الاستبدادية التى يؤدي إلى شيوع الكذب والغش والنفاق والشكلية في الدين وممارسة العبادات!! بمعنى أنها لا تقدم الدين باعتباره مرادفاً للأخلاق وإنما تختصره فى مجموعة إجراءات- لا سلوك- إذا ما أتمها الإنسان صار متديناً.
ويرى الأسواني أن الأديان جميعاً قد وجدت أساسا للدفاع عن القيم الإنسانية: الحق والعدل والحرية، وكل ما عدا ذلك أقل أهمية، وأن الذي يعمل وينفق على أهله أفضل عند الله من الناسك المنقطع للعبادة لكنه لا يعمل. وإن الفهم القاصر للدين سبب رئيسي في تردي الأوضاع في مصر، وأن الفضيلة تتحقق بطريقتين لا ثالث لهما: إما تدين حقيقي مرادف تماماً للأخلاق، وإما عن طريق الأخلاق وحدها حتى لو لم تستند إلى الدين، وإن التدين الحقيقي يجب أن يتطابق مع الأخلاق، وإلا فإن الأخلاق بلا تدين أفضل بكثير من التدين بلا أخلاق.
وبالرغم من اتفاقي مع معظم الآراء والأفكار التي طرحها الدكتور الأسواني إلا أنني أرى كثيراً من التيارات والأحزاب السياسية غير الدينية تُمارس عكس ما تدعو له في مؤتمراتها وندواتها وما تنادي فيه من قيمها ودساتيرها!! بل انها أشد في عنصريتها وممارساتها الشكلية والإجرائية أكثر من رجال الدين الشكلي والإجرائي في عالمنا العربي والإسلامي، بل إن بعض المنتمين لهذه التيارات السياسية والحزبية لا يمنعهم لا دين ولا تردعهم أخلاق عن ممارسة بعض السلوكيات الظالمة والجائرة والتي تؤدي إلى انتهاج شتى أنواع وأساليب الفساد للوصول للمال والسلطة بدون رادع ولاضمير!!
لا نريد أن نلقي اللوم على الدين ورجال الدين ومن يمارسون الدين شكلياً وإجرائياً ونبرئ الأحزاب والتوجهات السياسية الأخرى من ما وصلنا له من فساد وظلم وتخلف وضياع، فالدين الإسلامي فيه من الصلاح والقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية التي اذا ما طبقت فإنها تجعل من النظام العالمي جنة الله في الأرض.
ودمتم سالمين.