لم يكن عام 1961 كأي عام في مصر، بعد مرور تسع سنوات على ثورة يوليو 1952، فقد شهدت هذه السنة في سبتمبر انفصال سورية وخروجها من «الجمهورية العربية المتحدة» نواة الوحدة العربية، التي كانت قد أعلنت في فبراير 1958، وبذلك تزعزع بهذا التفكك ركن هام من الأهداف الاستراتيجية ومنها «الوحدة العربية»، للدولة والنظام الناصري بعد فشل الوحدة مع سورية، وكانت قد أعلنت في السنة نفسها «القرارات الاشتراكية» التي شقت صفوف بعض المؤيدين لعبدالناصر، وكانت «قوانين يوليو الاشتراكية» بداية تأسيس اقتصاد النظام الموجه قد صدرت كذلك عام 1961، وهي القوانين التي «قضت بتأميم جميع البنوك وشركات التأمين وتملك القطاع العام لما قيمته 50% من 91 شركة من كبرى شركات الاستثمار والإنتاج، وتحديد الملكية الفردية في 159 شركة بما لا يزيد على عشرة آلاف جنيه». (موسوعة الهلال الاشتراكية، 1970، ص116).
تقلصت في مصر تدريجياً الحريات السياسية مع هذه التطورات والتحولات، وانغلق الاقتصاد، وبدأت الأحوال شبه التعددية وبقايا الليبرالية المصرية الملكية بالانحسار، في حين أحكم العسكر قبضتهم على مختلف المجالات ضد المعارضة الدينية واليسارية و«بقايا» الليبرالية الغربية.
وصل الطالب الكويتي «عبدالله الصالح» خريج ثانوية الشويخ، كالكثير من الطلبة الكويتيين الدارسين في الجامعات المصرية إلى القاهرة، والتحق بكلية الآداب بجامعة «عين شمس» في العام الدراسي 1959-1960، وكان «الصالح» كما يقول «متسلحاً بشيء من المعرفة والجرأة في الحديث أمام الآخرين مهما كبر عدد الحضور أو اشتد الحوار. (ص 36).
وجاء النشاط الثقافي والمؤسسي «لاتحاد طلبة الكويت»، الذي كان الإطار الرسمي للنشاط الطلابي، والذي كان بقيادة «حركة القوميين العرب»، يقول الصالح، ليضع الطلبة الكويتيين «ضمن تجمع له كيان فكري وسياسي وشخصية مستقلة بين الاتحادات الطلابية العربية في القاهرة»، وجد الطلاب الكويتيون أنفسهم في اختبار عسير، فما كادت الكويت تعلن استقلالها في يونيو 1961، حتى انفجرت «أزمة قاسم»، بمطالبة الزعيم العراقي الذي كان قد قاد انقلاب يوليو 1958، بما أسماه «الحق التاريخي» للعراق بالكويت، وهكذا لجأت الكويت التي كانت قد استقلت للتو، للاستعانة بالحماية البريطانية!
كان العداء للإنكليز والاستعمار البريطاني وعموم السياسات المرتبطة ببريطانيا في أعلى درجاته في العالم العربي خلال الخمسينيات، وبخاصة بعد نكبة فلسطين وحرب السويس وإسقاط «مصدق» في إيران ومشاكل أخرى، وكما سيكون الوضع بعد عدوان أغسطس 1990، فوجئت التيارات السياسية في العالم العربي والدول العربية نفسها بقرار الاستعانة ببريطانيا وقواتها ضد «التهديد العربي»، وكما جرى الأمر عام 1990، وبأن «مسرحية خروج بريطانيا من الكويت وانهاء الحماية» كما قال الكثيرون، كانت «خروجاً من الباب ودخولاً من الشباك»، عبر افتعال أزمة سياسية كبرى ربما بتخطيط إنكليزي أو غربي، كما أيقن الكثيرون.
لم يكترث المحللون بأن «قاسم» كان قد انقلب على من كان يُعتبر عميلاً لبريطانيا، فكيف تستعين إنكلترا بقاسم الذي انقلب على الملك فيصل ونوري السعيد؟ غير أن بريطانيا كما هو معروف كانت مجهدة حقاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وربما حتى الأولى! وقد اضطرت فيما بعد، مع 1970، إلى مصارحة الدول الخليجية برغبتها الأكيدة في الانسحاب، وسط دهشة وعدم تصديق حكام المنطقة!
عارض اتحاد طلبة الكويت الموقف للدولة الرسمي في الاستعانة ببريطانيا، ويقول الصالح: «لا أزال أتذكر لحظة ادعاءات الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم بالحق التاريخي في الكويت، والقرار الذي اتخذته حكومة الكويت على وجه السرعة بدعوة القوات البريطانية للنزول في الكويت لحمايتها، يومها لم نقتنع كأعضاء في الاتحاد الطلابي بهذا القرار السريع، واعتبرنا عودة القوات البريطانية من جديد إلى الكويت عودة لاتفاقية الحماية لعام 1899م، بل اعتبر البعض منا أن هناك مؤامرة بريطانيا لاستعمار المنطقة لفترة أخرى من الزمن، وأن الخروج من هذه الأزمة يتطلب بالضرورة وجود قوات عربية في الكويت للدفاع عنها وحمايتها». (ص36).
وهكذا قرر «اتحاد الطلبة» الاعتصام بالسفارة إلى حين انفراج الأزمة ورحيل القوات البريطانية عن الكويت، وتعمقت الأزمة باحتلال الطلبة للسفارة الكويتية، ولم تنته المشكلة إلا بعد اقتراح الرئيس جمال عبدالناصر «ضرورة إنقاذ الموقف بين الكويت والعراق من خلال جيش عربي مشترك، يحل محل القوات البريطانية الموجودة في الكويت، وهكذا انفجرت تلك الأزمة بمجيء الجيوش العربية إلى الكويت وخروج القوات البريطانية منه». (ص37).
يشيد «الصالح» بأساتذة جامعة عين شمس، ويقول إنهم «من أبرز علماء العرب في علم الاجتماع والنفس والأدب العربي»، ومن الأسماء التي يذكرها د. مصطفى سويف، د.مصطفى زيور، د.لويس مليكة، د.حسن سعفان، د.محمد الزيات، د.مختار حمزة، د.أحمد أبو زيد... وآخرون، ويعبِّر «الصالح» عن امتنانه لأساتذته في «ثانوية الشويخ» الذين بنوا فيه أساساً معرفياً في مختلف العلوم، مما أهله لأن يكون «أحد الطلبة المرشحين لتمثيل كلية الآداب في الهيئة الإدارية لاتحاد الطلبة العرب في جامعة عين شمس، حيث استمرت عضويتي لحين تخرجي من الكلية عام 1964». (ص38).
ويقول الصالح إن جامعة عين شمس «تُعتبر من أقوى الجامعات المصرية بشهادة كل من عمل أو درّس أو كان على صلة بها»، لكنه يصف مبانيها أنها قديمة متهالكة، حيث يقال إنها كانت في الأصل إسطبلاً لخيول الخديوي إسماعيل باشا!، ويُعد الصالح، كما يقول «كنت أول كويتي يتخرج من هذه الجامعة عام 1964».
انتقلت مباني الجامعة عام 1963 إلى مدينة العباسية على مساحة شاسعة، فتنفسنا الصعداء بخروجنا من جهنم شبرا إلى جنة العباسية، غير أن الصالح يتحدث عن جانب آخر من الحياة في ظل نظام عبدالناصر، أي «المخابرات» ضمن عرض مشاهداته فيقول: «كان منزل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر يقع على طريق الكلية ولا يبعد عنها إلا مسافة قصيرة... هذا الموقع الاستراتيجي أعطى رجال المخابرات المصرية الحق أن يقتحموا علينا قاعات المحاضرات، ويدفعوا بنا إلى الشارع لنصطف على جانبي الطريق، وبهذه المناسبة لا أزال أتذكر زيارة رئيس الاتحاد السوفياتي «نيكتا خروشوف» لمصر في ربيع عام 1964م، عندما اقتحم علينا قاعة المحاضرات رجال المخابرات ليصيحوا بنا بصوت واحد «يالله يا أولاد برّه»، وكان المحاضر في تلك اللحظة الأستاذ الدكتور «مصطفى سويف» الذي حاول أن يحتج على سلوكهم العدواني وانتهاكهم حرمة الجامعة، لكنه سرعان ما توقف وهو يتمتم بعبارات احتجاج عندما أشار إليه أحدهم: مش شغلك!!».
وانتشر في النهاية الطلاب المصريون على جانبي الطريق الذي سيمر فيه الموكب، وعندما مرّ على مقربة من المكان الذي يقف فيه «الصالح» بدأت مجموعة من الطلاب تهتف بشعارات ساخرة، ويضيف الصالح: «وما إن ابتعد الموكب قليلاً حتى انقض رجال المخابرات على هؤلاء الطلبة واعتُقل الكثيرون منهم بشكل عشوائي، ولأني واقف على مقربة من هذا التجمع الساخر، فقد اعتقلت من ضمنهم، واقتُدنا جميعاً إلى جهاز المخابرات الكائن في مصر الجديدة لاستجوابنا، لكن سرعان ما جاءت تعليمات عليا فأفرج عنا في الحال بعد توبيخ وتهديد بالعقاب إذا تكرر منا هذا الأسلوب مرة أخرى، وبما أنني لا أنتمي إلى هذه المجموعة، ولا علاقة لي بها، إنما المصادفة وحدها هي التي وضعتني بجوارهم، وهذا ما أكده عدد من المسؤولين في إدارة الكلية لجهاز المخابرات، عندها رفع اسمي من بين الأسماء التي أدرجت ضمن كشف للتأكد من هوية أصحابها بأنهم لا ينتمون إلى خلايا سياسية مناهضة للنظام»، وهكذا انتهت المشكلة!
عندما عاد «الصالح» إلى الكويت بعد نهاية العام الدراسي، فوجئ بأن الكويت قد تغيرت كثيراً عن تلك التي عاش فيها عام 1959 والسنوات التي سبقت ذهابه للدراسة في مصر، يقول: «عدت لأبحث عن «الكتاتيب»، التي اقتطعت سنوات من عمري في كل ركن وزاوية فلم أعثر على شيء، وفتشت عن ذلك البيت القديم المبني من الطين وأحجار البحر فلم أجده، لأن عمارة كبيرة حلّت مكانه، حتى تلك الأفكار والمفاهيم التي كنت أقاومها بين أهلي وأفراد أسرتي هي الأخرى تلاشت، لأن رياح التغيير والتطور سحقتها».(42)... (للمقال تتمة).