يمكن النظر إلى كتاب «شرخ في جدار المستقبل» للأستاذ «عبدالله غلوم الصالح»، أحد البارزين في مجال العمل الاجتماعي والشعبي في الكويت، كوثيقة تاريخية عن بداية تشكل وتطور إدارة الشؤون الاجتماعية والقضايا العمالية والنقابية في البلدان العربية، فقد انهمك الأستاذ عبدالله في هذا المجال بعد تخرجه من الجامعة عام 1964 وعمله في وزارة الشؤون في الكويت، حيث شارك في مؤتمرات عربية عديدة تحدث عن فعالياتها في بقية فصول كتابه وعددها 13 فصلاً، وقد جرت هذه النشاطات في دول عربية عدة كالعراق والأردن ومصر وليبيا، كذلك في بعض الدول الغربية كالدنمارك.
كان «عبدالله الصالح» آنذاك مشحوناً كالكثير من أبناء جيله، بمثاليات وقيم الخمسينيات والستينيات الزاهية والتي يشتكي الكثير من مثقفي العالم العربي اليوم أنها «ذبلت» أو «اختفت» ويطالب البعض بالمزيد من الاهتمام بتلك المرحلة وقيمها ومبادئها وتجارب المشاركين فيها في سائر الدول العربية، في حين يعتبر آخرون تلك المرحلة مجرد انخداع ولهث خلف سراب.
جابه الناس حينذاك أو «جيلذاك»! مسؤولياتهم الوظيفية والاجتماعية والسياسية، وحَرّكَتْهم رغبة حقيقية في بناء دول ومجتمعات حديثة، وطالبوا بالتكيف مع العصر وضرورات التغيير، والإسراع بالخروج من دائرة التخلف، وغير ذلك، فكانت هذه الدوافع محركات اجتماعية نهضوية مؤثرة في معظم المجتمعات العربية وبخاصة الرئيسة منها.
فقد تعيننا مثل هذه الدراسات والتحليلات في فهم ما جرى في قواعد وقيادات هذه المجتمعات وما اختفى فيها أو استجد من قيم وأولويات، غير أن هذا التفاؤل يجابه منذ عقود بحملات من التشكيك التي تجمع أن ما اعتقد الكثيرون أنها نهضة وتغيير وحداثة، لم يكن مبنياً على أسس صحيحة، وأن النهضة والتحديث، كما «التنوير» في أوروبا، بحاجة إلى جهود فكرية وتضحيات وتغييرات كالتي جرت هناك.
وهنا نقاش طويل اتسع الأخذ والرد فيه على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين بين مثقفي العالم العربي ولا يزال، ولا مجال أو مطمح لحسمه هنا، كان «الصالح» قد عاد للتو من سنوات دراسته في مجال علم الاجتماع بمصر، العلم الذي برز فيه بعض كبار الأكاديميين والباحثين المصريين في القرن العشرين، وقد تضمنت دراسته نشاطات عملية كإجراء بحث ميداني بين سكان المقابر في مصر، وعمل استبيانات لقاطنيها!
يقول الصالح: «لا أبالغ حين أقول إنه أثناء تطبيق ذلك الاستبيان أو الاستمارة اضطررت إلى أن أنزل داخل القبور التي حُفرت حديثاً، واتخذها البعض كسكن لحين قدوم صاحبه الشرعي، فتنتقل الأسرة إلى قبر أو عدد من القبور الأخرى المجاورة، حسب تعداد الأسرة لتستكمل مسيرة حياتها بهدوء ودون أي تطلّع لحياة أفضل». ويضيف قائلاً: «كانت بعض الأسر التي تسكن هذه القبور تلح عليّ، وتستحلفني بالأنبياء والرسل أن أشرب الشاي معها ونحن جلوس داخل القبر على عمق مترين تحت سطح الأرض، وكان البعض الآخر يصر أن أتناول معهم الطعام من أجل أن أشاركهم لقمة العيش والملح، كما كانوا يرددون على مسامعي، هذا الأمر كان يفرض عليّ البقاء داخل القبر لفترة طويلة نجتر خلالها الأحاديث، ونحن نأكل أو نشرب، وهي أمور ساعدتني كثيراً في الوقوف على أفكار هؤلاء ومعاناتهم وأحلامهم قبل الشروع في توجيه الأسئلة لهم». (ص47).
ماذا عن عمل الصالح الإداري في الكويت بعد تخرجه وعودته؟ كان صراع عبدالله الصالح في بداية عمله الإداري في الوزارة بعد التخرج، كما يقول، مع واقع البطالة المقنّعة التي استفحلت في السنوات اللاحقة في الوزارات ولا تزال، ونجح الصالح في تحقيق الاستقلالية في مجال التأهيل المهني، واهتم بالمشاكل الاجتماعية وقضايا انحراف الأحداث وتشجيع العمل الميداني، ويبدو مما يتحدث عنه في هذه المذكرات للأسف أن لمحاولات استغلال التسهيلات الحكومية من قبل البعض حالياً تاريخاً وجذوراً!
من المشاكل الاجتماعية، قام الصالح مثلاً بدراسة ميدانية حول «مشكلة الزواج في الكويت»، حيث لم تؤكد نتائج البحث ما كان يقال إن المبالغة في المهور هي السبب الأساسي لعزوف الشباب الكويتيين عن الزواج بالفتاة الكويتية والانصراف عنها للزواج من الخارج، ويقول الصالح: «وقفنا على عوامل أخرى كانت أقوى من هذه الفرضية»، أي مجرد «غلاء المهور»! ويضيف متحدثاً عن التعامل مع الجمهور وما لهُ من تبعات: «من طرائف ما واجهناه، ونحن نقوم بالعمل الميداني أن ثمة إشاعة انتشرت تقول إن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل سوف تقوم– على نفقتها الخاصة– بتزويج كل شاب كويتي لم يتزوج وراغب في الزواج، الأمر الذي بدأ ينعكس سلباً على ردود عينة البحث في الاستمارة المعدة لذلك، وخصوصا بين أوساط رجال الشرطة والجيش، مما دفعني إلى الاستعانة بالتلفاز والإذاعة والصحافة للتصدي لهذه الإشاعة، ورغم ذلك فقد اضطررنا إلى استبعاد 500 استمارة من عيّنة البحث بسبب المبالغة الواضحة في الردود». (ص57). للمقال تتمة.