لا شك أننا تعرضنا جميعاً لموقف أو عدة مواقف اعترضنا فيها على تفكير أو تصرف الآباء، أو كنا فيها على العكس لانتقاد الأبناء، وهذا يرتبط بما سمّي «صراع الأجيال»، وهو عبارة عن ظاهرة اجتماعية تعكس بشكل طبيعي اختلاف القيم والقناعات والسلوكيات بين جيل وآخر نتيجة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتطورات التكنولوجية المستجدة والمتسارعة.
لهذه الظاهرة عدة أسباب تأتي في مقدمتها الأسباب النفسية، حيث يميل الشباب عادة الى إثبات تميّزهم وبناء هويتهم الخاصة وتحقيق تطلعاتهم الذاتية مما قد يقودهم تلقائياً الى التمرد على الثوابت والثورة على المعتقدات والانقلاب على التقاليد، بمقابل مشاعر قلق وحرص متجذرة لدى الآباء على عدم انجراف الأبناء والأحفاد الى ما قد لا تسرّ نتائجه، فجيل الشباب في مسعى دائم الى التمسك بحريته في التفكير واستقلاله في التقرير، مما يضعه في مواجهة متوقعة مع الأجيال السابقة التي عادة ما تكون أكثر تمسكاً بأفكارها وأشد التزاماً بما لديها من قيم وقناعات كرستها الخبرة الممتدة.
من ناحية أخرى، ساهم التقدم التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج الصراع بين الأجيال، حيث نشأت «فجوة رقمية» فصلت بشكل لافت ومتسارع بين جيل غارق حتى أذنيه في العالم الافتراضي ومتاهات التقنيات الحديثة، وجيل تقليدي ما زال ينظر الى هذا التغيير بحذر وريبة.
يضاف الى ما سبق كثير من العوامل الواقعية المرتبطة بالجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والحضارية، ومن ذلك على سبيل المثال التغيرات في سوق العمل ومتطلبات الفرص الوظيفية الحديثة التي تنحّي جانباً مسألة الخبرات الطويلة المتراكمة لصالح أحدث المعارف والمهارات التكنولوجية، الأمر الذي يترافق مع ما تشهده المجتمعات من تحولات اجتماعية وتغيرات جليّة في المفاهيم المرتبطة بالأسرة والزواج والمساواة وحقوق الفئات الأكثر تعرضاً للتمييز، وتلك التي تقارب مواضيع حسّاسة كالدين والسياسة والأخلاق، وجميعها مرشحة لأن تكون موضوع خلاف في وجهات النظر بين جيل الشباب المندفع ومن سبقه من أجيال أكثر هدوءاً ورصانة في التعامل مع الواقع.
ومن زاوية قد ترتبط بكل ما سبق، يتصاعد الاختلاف بين الأجيال نتيجة الارتدادات النفسية لمعاناة معظم البشر على اختلاف الأزمنة والأمكنة من بعض الظروف الخاصة بالفروقات العمرية، فقد يضيق نَفَس المتقدّم بالسن نتيجة ما تحمّله طوال حياته من مسؤوليات وضغوط قد تكون مستمرة الى أن تترافق مع أمراض مرتبطة بتقدم السن، مقابل وجود قلق حقيقي وتوتر ملحوظ لدى جيل الشباب الذي يجد نفسه في دوامة عيش سريعة تحيط بها تحديات كثيرة مثل الضغط الاجتماعي، والبطالة، وصعوبة تحقيق الاستقرار المالي، اضافة الى الهشاشة النفسية.
***
«التفهّم والتفاهم» هما الحلّان الوحيدان لنزع فتيل أي صراع بين الأجيال، وذلك لأن التفهّم الحقيقي المقترن بالاحترام المتبادل والتقدير الجليّ لإنجازات ومعارف وخصوصيات كل جيل سيفتح الطريق الحتمي أمام حوار جدّي من شأنه أن ينتج التفاهم، ويمكّن كل جيل من أن يتعلم من تجارب الجيل الآخر.
فإذا ما بنيت جسور التواصل المفتوح وشجع الحوار الصريح، وإذا ما اقتنع الجميع بحتمية التعلّم المستمر وأهمية امتزاج الخبرات المتراكمة مع الرؤية والمهارات والعلوم الحديثة، يتحقق الهدف من وجود تكامل بين الأجيال يساهم فيه بشكل رئيس الانخراط الاجتماعي وتعميم ثقافة النقاش وترشيد المواجهة الجماعية للتحديات المستقبلية الخاصة والعامة.
فعلى عكس السلبية التي يمكن أن تتسم بها عبارة «صراع الأجيال» يمكننا القول إن «نديّة الأجيال» ليست دائماً سلبياً، كونها تعزز روح تحدّي الفروقات والتصدّي للصعوبات، بما يقود حتماً الى تكامل الجهود لتجديد وتطوير المجتمعات وتوجيه الانتباه إلى القضايا المستحدثة والتغيرات الحتمية، هذا مع الإضافة أن الأجيال السابقة دائماً ما ترى في الأجيال اللاحقة امتداداً طبيعياً لها وحلقة وصل بين عراقة الماضي بإشراق المستقبل.
***
وبمناسبة الحديث عن الأجيال، لطالما تردد أن «جيلاً يبني، وجيلاً يحافظ، وجيلاً يهدم»، ولنا في كثير من التجارب المحلية والدولية ما يرتبط بهذه المقولة تأكيداً أم نفياً، إذ إن قيادة دفّة النجاح والتحكم بمقود التطوير مسار لا يرتبط بعمر ولا يحتكره جيل.
ومهما اختلفنا في النسبة المئوية لتحقق هذه المقولة، تبقى عباراتها ناقوس خطر يقلق جميع من يهمّه المحافظة على موروثاتنا العائلية والوطنية، ومن يشغله استكمال مسيرة البناء التي أسسها الأولون على الصعد كافة الخاصة والعامة.
* كاتب ومستشار قانوني