ليتهم أو ليتكم تصمتون*
«الصمت لغة قدسية... وكل ما سواه ترجمة رديئة». (جلال الدين الرومي)
والموت يطارد الفلسطينيين وغزة تباد أمام أعين كاميرات تحاول هي الأخرى ألا تموت وهي تدون الإبادة والدماء الطاهرة تسقي الأرض بل الجدران والزرع والبحر، المدن الكبرى والصغرى تموج بالهاتفين «أوقفوا القصف» «أوقفوا الإبادة» «النصر لفلسطين»، بالطبع هناك مدن عربية جدا شاءت أو أرادت أو سعت أو قمعت حتى خاف الناس من قول الحق في زمن الموت المعلن!!!
في مثل هذه اللحظات وكثيرون ينادون بالمقاطعة وهي أضعف الإيمان لمن لم يستطع رفع الصوت سبيلا أو الخروج في مسيرات واعتصامات تعبر عن نبض الناس المكبوت، ورغم أننا ندرك وإياهم أن المقاطعة هي الأسهل بين فنون الممانعة أو المعارضة أو الاحتجاج، لأنها لا تغير من حياة البشر، فهي استغناء فقط عن كثير من الكماليات التي حولوها هم إلى أساسيات، فهل سمعتم عن شخص مات لأنه لم يتناول قهوة ستاربكس أو تضور جوعا لأنه لم يأكل ماك برجر؟ أو غيرهما؟ بالطبع لا، لكنهم أو بعضهم يصر على استخدام لغات مختلفة بدلا من الصمت وهو الأنسب لكثيرين من أولئك الساكنين بيننا، هم مقيمون فقط بالقرب منا فيما نحن وهم نبعد أميالاً وكيلومترات بل سنوات ضوئية.
هم يصرون على استخدام لغة الاستهزاء بكثير من الغمز واللمز على وسائل التواصل أو في مقالات بما تبقى مما يسمى صحفا باهتة، يصرون على خطاب فيه كثير من التعالي على الإنسان هنا، ذاك المقيم بالقرب منهم بل الملاصق لهم والموجوع حد الشعور أحيانا بأن الموت أرحم من العجز، وصور موتهم تتصدر نشرات الأخبار وما بينها وقبلها وبعدها وحوارات الكون، قد يحاول المرء أن يجد لبعضهم عذرا فيه كثير من الذل، أي عذر، إنه أو إنها أو إنهم خائفون على لقمة عيشهم أو على منصبهم أو مركزهم أو علاقاتهم أو أي أمر مادي وشديد التفاهة.
قد يحاول بعضنا أن يجد لهم أو يبحث لهم عن عذر، لكننا لا نستطيع أن نتحمل كمّ ما يصدر عن كثير من الشخصيات، وخصوصاً الخليجيين منهم من كتاب وباحثين في مقالات أو تغريدات أو غمزات أو لمزات في مؤتمرات أو تجمعات محلية أو حتى في ذاك الشهير جدا لعلية القوم «دافوس» حيث يصطف الجميع في رشاقة وخفة يتلون رسائل مكررة عن حرصهم على مصحلة البشر والأرض، ومن عليها حتى على الفراشات في غابات الأمازون أو الفيلة في الهند وأسماك القرش كلها، نعم كلها مهمة بالنسبة إلى ذاك الجالس في ذاك المنتجع الفخم وحوله جبال من الثلج الأبيض، ربما في إشارة لتناقض بياض الثلج مع ما يدور من سواد في الغرف المعتمة رغم أنوار النيون والثريات الفخمة!!!
ماذا يريدون منا، يقول كثيرون؟ بل ماذا يريدون من الموتى في المقابر الجماعية في غزة أو النساء النازحات من بيت إلى شقة إلى جحر إلى مركز إيواء إلى مستشفى إلى مدرسة للأونروا، ومن ثم إلى مخيم وسيول الأمطار والعواصف تقصف بما تبقى من دفء التصاق الجسد بالجسد، فلا وسيلة للتدفئة هنا ولا دفايات حديثة وفخمة ولا حتى قطعة خشب أو فحم، فالصهيوني يطارد أي مصدر للحياة على هذه الأرض حتى يعبث هو بها وكل داعميه ومناصريه ومنهم أولئك المصرون على الحديث في وقت ليس المطلوب منهم إلا الصمت، ربما قداسة لإنسانية هم لا يستحقونها وحياة ليسوا أحق بها بل كل أطفال ونساء وشيوخ ورجال غزة وفلسطين هم الأحق بالحياة منهم.
ففي حين تتراكم الأكفان في غزة التي تنشر صورة للموت المتنقل قد تكون هي الحرية و«دشاديشهم» هم هي الموت!!! هكذا أيضا قال الرومي منذ عقود طويلة طويلة «الكفن يبدو سجنا لكنه يعني الحرية»، ربما هو رمز لأمر آخر لكنه الآن يعبر عن هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ ليس خاصا بالفلسطينيين أو العرب أو المسلمين أو الشرق أوسطيين سموهم ما شئتم، بل هو تاريخ حاسم للبشرية إما أن ننتصر لإنسانيتنا أو نموت وننقرض كالديناصورات!!!
ولا يزال بإمكان أولئك الجالسين في مكاتبهم الفاخرة المتنقلين بسيارات وطائرات حل أزمة الجوع والمرض في بعض غزة إن لم يكن كل فلسطين، لا يزالون مصرين على التغريد هنا أو الكتابة هناك والغمز واللمز مرة مدافعين عمن يدفع لهم، ويعرف أنه في طريقه إلى مزبلة التاريخ حتما، ومرات لبضعة دراهم أو دنانير أو دولارات، ليس المطلوب منهم أو من كل الكون أن يكون مع الحق ومع الحياة في مقابل الموت أو مع فلسطين كما جنوب إفريقيا وكثير من الأحرار في أيرلندا وغيرهم، بل المطلوب منهم فقط الصمت والجلوس في الركن حتى نلملم أشلاءنا وندفن موتانا وأحبابنا، ونعيد وضع الحجر فوق الحجر ليكون شبيها بذاك البيت الذي كان، وربما نعلق صورة تمسكنا بها هي ورغيف الخبز المتبقي وحفنة زعتر، يصمتون حتى ننتهي من كل ذلك ثم نعود لنفتح الدفاتر والكتب ونصف الأحرف والكلمات ونسجل ما لن يستطيعوا أن يمحوه مهما دفعوا، فليس البشر جميعا رعايا وتوابع وحاشية للملك مهما كان لقبه رئيسا أو أميرا أو مديرا أو رئيس شركة عالمية... الرجاء اصمتوا يرحمكم الله.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية