أهلاً عمي
الناس أخذوا ينادونك بـ «عمي» منذ فترة طويلة أو قصيرة، لا تتذكر متى، فالزمن يعبث بالذاكرة، لماذا «عمي»؟ فلست عمهم ولا علاقة قربى معهم! هم لا يتقربون نحوك، هم فقط «من باب الاحترام» ينادونك عمي، شكراً لهم، فقد نبهوك بأنك دخلت عالم الكهولة المترهل.
حين تنظر للمرآة تجد عدم التناسب بين حجم أذنيك ووجهك، الأذنان كبرتا واستطالتا، والوجه ترهّل ورُسمت عليه انتفاخات وتجعدات، ليس الوجه فقط، كل ما في الجسد يضمحل، ضعف، انتفاخات... تجعّدات... أمراض تهاجمك من غير مناسبة... مبروك... أضحيت كهلاً.
اقتربت من المحطة الأخيرة في رحلة قطار العمر، وكنت قد نسيت عرباته، وتهت عن سكة سفره أيام الشباب، كانت الدنيا مشاغل وفرحاً وزعلاً وجمالاً وحبّاً، الآن لا شيء غير الملل والسأم ومشاعر طاغية بعدم الجدوى... لماذا؟!
الروائي ت. إس إليوت يمتدح الكهولة بأنها تجعلك ترفض هراء الأحداث اليومية، لا تتقبل الغطرسة ولا الأماني الكاذبة. رام داس الأميركي الهندوسي يذكر أنه ليس بالأمر السهل لدينا عندما نشيخ ونهرم، فلسنا أحياء ولا أمواتاً، نحن نناضل ضد القدَر المحتوم، ونتألم من تلك المغالبة، ونعود نبحث عن المعنى في أنك يوماً ولدت، وكبرت، وشخت، وتبدلت وتموت.
د. زكريا إبراهيم في شرحه لهايدغر عن الوجود والزمان يذكر أن الموت يحوّلنا من «هنا والآن» إلى وجود ماض بحت أصبح في خبر كان. ويؤكد أن الوجود الحقيقي هو الوجود من أجل الموت، ففكرة الموت تصرف الذات عن التفكير في هموم الحياة ومشاغل الآخرين، فتضعها وجهاً لوجه بإزاء وجودها الفردي الخاص... وليس تقبّلنا للموت مجرد انتظار مستمر للحظة النهاية، بل هو مواجهة مستمرة لذلك العدم الذي يخلع على وجودنا طابعه الحاسم.
أيضاً إرنست بيكر، مؤلف الكتاب الشهير «إنكار الموت»، دعا إلى تحفيز الوعي بالموت كي يكون هناك معنى للوجود. عبدالرحمن بدوي في كتابه الزمان الوجودي ينسب لأرسطو قوله بأن تفرح للحظ عندما يصيب السهم (سهم الموت) الشخص الذي بقربك ولا يصيبك.
ما عليك... افتح تلفونك الجوال على أرقام معارفك، تجد هذا مات قبل أيام... وذاك توفي قبل شهرين... أو سنة أو سنتين... أرقام المتوفين أكثر من أسماء الأحياء الذين تعرفهم... ماذا لو اتصلت بأحد الذين ركبوا القطار في محطته الأخيرة وردّ عليك... نعم أنا موجود، وكل الحياة وهم بوهم... هل تسمعني يا عمي؟ أنا بانتظارك.