من صيد الخاطر: «الحقّ أبلج والباطل لجلج»
«الحقّ أبلج والباطل لجلج»، فالحق ناصعٌ كالصبح ظاهِرٌ بائن، أما الباطل فهو غامض زائل لا يدوم إلى الأبد، ولا بد أن يأتيه يوم فيدحره الحق وينكشف عليه مهما طال عليه الزمن، فالأبلج وصف للحق بأنه واضحٌ لا لبس فيه، والباطل يلجلج لأنه ملتبس ولئيم، يتردد فيه صاحبه، ولا يصيب منه مخرجاً مهما حاول.
قائل هذا المثل أكثم بن صيفي التميمي، الملقب بحكيم العرب، لأنه صاحب قول الكثير من الجُمَل التي لا تزال تُتَداول بين العرب على أنها حِكم وأمثال، حتى أن البعض يحسبها أحاديث، وما هي بأحاديث، ويظنها البعض آثاراً مرويّة عن الصحابة أو التابعين، وهي ليست كذلك.
وُلد أكثم بن صيفي في الجاهلية، وأدرك مبعث النبي، صلى الله عليه وسلم، ويُقال إنه لم يُسلم، لكنه وصَّى قومه بالإسلام، بعد أن استفسر من الرسول عن ذلك الدين القيّم، فردّ عليه السلام بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».
ويُقال إنه مات وهو في طريقه إلى المدينة ليُعلن إسلامه ومعه مئة من قومه، فلم يتسنّ له رؤية الرسول عليه السلام، أما من بلغ من قومه المدينة فقد أسلموا، فهو المعني بقوله تعالى: «وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
ترك أكثم بن صيفي بعد وفاته تلك الحكمة التي لا تزال تتداول بيننا: «الحق أبلج والباطل لجلج»، كما ترك وراءه ما يماثلها من الحِكم حول الباطل، منها: «جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة»، و«للحق دولة، وللباطل صولة»، و«للباطل جولة ثم يضمحل»، و«الحق يعلو ولا يُعلى عليه».
وقال أحد الشعراء في ذلك:
الحق أبلج، لا تخفى معالمه
كالشمس تظهر في نور وإبلاج
وقال آخر:
ألم تر أن الحق تلقاه أبلجا
وأنك تلقى باطل القوم لجلجا
وهل هناك أصدق من قول الحق تعالى حين قال: «وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ»، «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا».
وعن الرسول، عليه السلام، أنه قال: «ألَا لا يَمنَعَنَّ أحَدَكم رَهْبةُ النَّاسِ أنْ يقولَ بحَقٍّ إذا رَآهُ»، وقال محذراً: «إنه سيَخرُجُ قومٌ يتكلمون بالحقِّ لا يجاوِزُ حَلْقَهم يَخرجون مِنَ الحقِّ كما يخرجُ السهمُ من الرَّمِيَّةِ»، وردّ عليه السلام حين سُئل أي الجهاد أفضل؟ بقوله: «كلمةُ حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ».
اللهم أزهق الباطل، وأنقذ بلدنا من الملجلجين، وأحق الحق، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه.