العبادة ليست عادة
كان أحد الخطباء في مسجد بيروتي شخصية ظريفة، يجمع إلى علمه الفقهي مهارات منبرية ونباهة تمكّنه من توصيل فكرته بلغة بسيطة وعفوية قريبة إلى فهم ووجدان المؤمنين الذين يأتون- رغم اختلاف بعضهم مع معتقداته- للاستماع الى خطبته بالمئات فيكتظ بهم المسجد والطرق والأرصفة المحيطة به.
ويروى عنه أنه في يوم من الأيام بدأ خطبته بمدح الحشود على التزامهم بالصلاة والثناء على مواظبتهم الحضور في كل جمعة، فعلت أصوات التكبير وعمّ الحمد الأرجاء وطأطأت الرقاب خشوعاً! فما لبث أن باغتهم بسؤال على طريقته العفوية المحببة: «يا إخوان طالما جميعكم في المسجد، فمن الذي رمى كل هذه الزبالة في زوايا الحي وعلى الطرقات؟ من الذي غشّنا في متجره؟ من أزعج جاره في مواقف السيارات؟ ومن؟ ومن؟ ومن؟».
وبالطبع لم تأت الإجابة التي أساساً لم ينتظرها الخطيب، فأردف مستكملاً حديثه عن مواصفات المؤمن العابد حقّاً، لا المسلم اسماً وهوية وتمسكاً بعادات هي أقرب للجاهلية منها للإيمان الحقيقي! فالدين أخلاق وعبادة وطقوسه ليست عادة، بل هي قناعة بالخضوع والامتثال لذي الجلال والتيقن من بلوغ مراميها، لا الالتزام بشكلياتها تكراراً دون فهم واصراراً دون علم.
فلا الفساد الإداري، ولا النفاق المجتمعي، ولا التكاذب السياسي، ولا التمييز العنصري، ولا الظلم القانوني، ولا الجور القضائي، ولا الغش التجاري، ولا انتهاك الحرمات في المجالس والديوانيات هي أفعال وسلوكيات تتفق مع المواظبة على الصلاة بفرائضها وسننها، أو تنسجم مع الصيام عن المحرمات قبل الانقطاع عن تناول الطعام والشراب.
فلا نتعللّ بمغفرة الرحمن لارتكاب الآثام، ولا نتناسى أن الغفّار هو الجبّار، وأن من خلق الجنّة خلق النار، وليستذكر كّل منّا أننا نعيش بين الخوف والرجاء، «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ»، كما «لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»، و«إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
***
الصورة النمطية التي ألصقها الغرب بالملتحي المسلم والمؤمن الملتزم، لا تعود أسبابها فقط إلى خطة ممنهجة وحملة مدروسة لإلصاق تهمة الإرهاب بكل ما يرتبط بالعرب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، ولكن بعض «المتأسلمين» يتحملون المسؤولية بكثير من تصرفاتهم وقناعاتهم.
وفي السياق، أذكر مرّة، وفي عزّ انتشار ما سمّي «الإسلاموفوبيا» على أثر أحداث «11 سبتمبر 2001»- التي ما لم تحسم بعد في أذهان الكثيرين مسؤولية من خطط لها ونفذها ومن استفاد من تداعياتها- قام أحد الشبّان ممن أطلقوا لحاهم على عواهنها بمدّ سجّادة في بهو إحدى الجامعات الفرنسية، ومن ثم أقام الصلاة وعلا صوته بالتكبير، فما كان من عشرات الطلبة الذين وجدوا في المكان إلا أن فرّوا هلعاً وهرولوا فزعاً.
وبالطبع، كانت الشرطة قريبة، وكان السؤال البدهي حاضراً: إن كان حرصك على العبادة هو المتحكم بتصرفاتك، ألم يكن الأجدى أن تختار صالة فارغة في المبنى أو أن تتكبد عناء المشي ربع ساعة للوصول إلى أقرب مصلّى خارج حرم الكلية، لتأدية واجباتك كما يحلو لك وكما ينبغي أن تكون؟!
***
بين المعرفة والإيمان علاقة تكاملية، وهما وجهان لعملة واحدة، إذ إن المعرفة دون إيمان هي عمياء، والإيمان دون معرفة هو خواء، ولا يمكن للمسلم أن يكون مؤمناً حقاً دون إلمامه- قناعة وتصرفاً- بالكليات الشرعية الخمس المتمثلة بحفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وأي تصرف من شأنه أن يمسّ أي ركن من هذه الخماسية المرتبطة والمتكاملة يشوه صورة المؤمن ويهزّ ركائز الإيمان السليم.
ما نعانيه في مجتمعاتنا من تفكك أسري وانحلال أخلاقي وتدهورعلمي وتراجع قيمي يرتبط ارتباطاً واضحاً ووثيقاً بمقاربتنا الجاهلة- وعلى الأقل الناقصة- لثلاثية الدين والأعراف والتقاليد.
نكرر على الأقل في يومنا سبع عشرة مرة آية «اهدنا الصراط المستقيم»، ولم يفكّر معظمنا بدلالات هذا الدعاء بعظيم محتواه وجميل منتهاه، فما إن نفرغ من عادة صلاتنا حتى نمضي في صراط لا يمتّ الى الاستقامة بصلة، ونتمسك بتقاليد لا تقترب الى الإيمان بجوار، ونتّبع أعرافاً هي أقرب إلى سيرة أهل الجاهلية الأولى من مسار الإسلام الصحيح.
***
يعرف الفقه الإسلامي ما يسمى «تجديد الإيمان» وهذا ما يرتبط في حقيقته بطبائع الإنسان المفطور على النسيان والمخلوق «جهولاً» والغافل معظم الأوقات عن حقيقة الدين والحياة والموت، مما يفترض علينا دوماً الوقوف مع النفس للتفكّر والتدبر، ومن ثم استكمال مسيرة الحياة على نهج قويم وإيمان سليم، يسلم فيها الناس من سيوف ألسنتنا ومن بطش أيادينا ومن جور تعصبنا، ومن إثم تخلينا عن مسؤولياتنا الدينية والقانونية والأخلاقية.
* كاتب ومستشار قانوني