استمعت محكمة العدل الدولية، في المرحلة الأولى، يومي 11 و12 يناير من هذا العام إلى طرفي النزاع في القضية المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة والتي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل.
وأنجزت هذه المحكمة المرحلة الثانية من مهامها بإصدار أمر «التدابير المؤقتة» فيما يتعلق بهذه القضية في السادس والعشرين من هذا الشهر، وبعد انقضاء قرابة الأسبوعين من جلسات الاستماع الأولية، وأول ما نشير إليه ونركّز عليه في الأمر الأخير الصادر عن المحكمة هو قبولها للنظر في الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، بخصوص ارتكابها جريمة «إبادة جماعية» منتهكة بذلك أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تم اعتمادها بتاريخ
9/ 12/ 1948، ودخلت حيز النفاذ بتاريخ 12/ 1/ 1951.
وتضمن أمر المحكمة ست نقاط أساسية سنختصرها كما يلي:
1- يجب على إسرائيل، وتطبيقا لالتزاماتها التي نصت عليها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اتخاذ كل الإجراءات التي بحوزتها لمنع القيام، وفيما يخص الفلسطينيين في غزة، بكل عمل يدخل في نطاق تطبيق المادة (2) من هذه الاتفاقية (والاتفاقية تستخدم عبارة: الجماعة)، وبخاصة: قتل أعضاء جماعة، والإضرار بشكل خطير بالسلامة الجسدية والعقلية لأعضاء جماعة، وإخضاع جماعة بشكل مقصود لشروط عيش يمكن أن تسبب تدميرهم جسديا بشكل كلي أو جزئي، واتخاذ إجراءات تهدف إلى عرقلة الولادات في جماعة.
2- يجب أن تضمن دولة إسرائيل، وبشكل فوري، على ألا يقوم جيشها بارتكاب الأعمال المشار إليها في الفقرة الأولى الآنفة الذكر.
3- يجب أن تتخذ دولة إسرائيل كل الإجراءات التي في حوزتها لمنع ومعاقبة التشجيع المباشر والعلني للقيام بالإبادة ضد أعضاء جماعة من الفلسطينيين في قطاع غزة.
4- يجب أن تتخذ دولة إسرائيل ومن دون تأخير كل الإجراءات الفعلية للسماح بتقديم الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية المطلوبة بكل استعجال بغرض تخفيف صعوبات الحياة والتي يعيشها سكان غزة من الفلسطينيين.
5- يجب أن تتخذ دولة إسرائيل الإجراءات الفعلية لمنع التدمير والمحافظة على عوامل الإثبات المتعلقة بالادعاءات الخاصة بالأعمال التي تنص عليها كل من المادتين 2 و3 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تم ارتكابها ضد أعضاء جماعة من الفلسطينيين في قطاع غزة.
6- يجب على دولة إسرائيل أن تقدم للمحكمة تقريرا عن الإجراءات التي اتخذتها بقصد تطبيق أمر المحكمة في مهلة شهر من تاريخ هذا الأمر، كما يجب تبليغ جنوب إفريقيا بمضمون هذا التقرير.
والجدير بالذكر أن كل قضاة محكمة العدل الدولية، وعددهم في هذه القضية 17 قاضيا، 15 قاضيا أصليين، ترأسهم قاضية أميركية، واثنين من القضاة المؤقتين عن جنوب إفريقيا وإسرائيل، قد صوتوا لمصلحة مختلف نقاط هذا الأمر باستثناء قاضية من أوغندا صوتت ضد كل هذه النقاط، والقاضي الإسرائيلي المؤقت الذي صوت ضد النقاط: 1، و2، و5، و6. وجاء ذلك في حيثيات ما بينه أمر المحكمة ومختلف نقاطه والذي صدر باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ونذكر بالمناسبة أن مجموعة أوامر وأحكام وفتاوى المحكمة تصدر مرة واحدة في العام بالعربية والإسبانية والروسية والصينية، حيث يتم نشرها دورياً بهذه اللغات على موقع المحكمة.
وجهت عدة انتقادات لما صدر حتى الآن عن محكمة العدل الدولية، ومن بين هذه الانتقادات أنها لم تأمر بوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، وكأننا نسينا بأن هذه المحكمة هي هيئة قضائية وليست هيئة سياسية، بل أرى شخصيا بأن ما صدر عن المحكمة يعزز قواعد القانون الدولي، ويؤكد على استقلالية المحكمة وقضاتها ونزاهتهم وحيادهم، وقيامهم بمهامهم كما حددها نظام المحكمة. ويوجد نقطة مهمة يجب ألا تغيب عن الأذهان هو الأصل الذي اعتمدت عليه المحكمة لإصدار أمر «التدابير المؤقتة»، وما ستصدره لاحقا من حكم نهائي، ويتمثل هذا الأصل في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وليس في هذه الاتفاقية ما يشير إلى وقف لإطلاق النار أو ما شابهه.
والكرة الآن، كما يقال، في ملعب الهيئات السياسية في الأمم المتحدة التي عليها النظر فيما صدر عن المحكمة، وتتداول حاليا وسائل الإعلام خبر انعقاد جلسة لمجلس الأمن في غضون الأيام القادمة للنظر في الأمر الذي أصدرته المحكمة، ولو أننا نعلم مسبقا آلية عمل المجلس وكيف يمكن تعطيل إصدار قراراته، ولكن انعقاده ومناقشته لما صدر عن المحكمة يُعّد في حد ذاته تعزيزا لنظامها واعترافا لا جدال فيه بدورها في فض النزاعات التي تعرض عليها.
ستتجلى أخيرا المرحلة الثالثة في هذه القضية الحساسة والمهمة التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في الحكم النهائي الذي ستصدره المحكمة بخصوص هذه القضية، ويمكن أن ننتظر عدة سنوات قبل صدور هذا الحكم، وسنكون وقتها أمام تحديين:
يتمثل الأول في تنفيذ هذا الحكم النهائي، ومدى استعداد المجتمع الدولي ممثلاً بمختلف منظماته، الدولية والإقليمية، في السهر على تنفيذ الحكم تطبيقا لقواعد القانون الدولي ومبادئ العدل والإنصاف.
أما التحدي الثاني فيتمثل في الخطوات التي ستخطوها البلدان العربية والإسلامية، ومختلف منظماتها في متابعة هذا التنفيذ ونتائجه أكاديمياً بعقد المؤتمرات والندوات، وتحضير عدد من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه في الجامعات العربية والإسلامية عن هذه القضية ومختلف حيثيات ما صدر وسيصدر عن محكمة العدل الدولية، وإعلامياً بتخصيص البرامج واللقاءات والتقارير بقصد الشرح والتبيان والوقوف على أهم نقاط حكم المحكمة ونتائجه فيما يخص قطاع غزة والأراضي العربية المحتلة أيضاً، واجتماعياً بتنظيم منظمات المجتمع المدني لمختلف حملات التوعية والدعم والتضامن، وإنسانياً من خلال تقديم كل الدعم والمساعدة والمواساة لضحايا حرب غزة.
لعل الفرصة تتاح لنا مستقبلاً للحديث عما هو مأمول بعد صدور الحكم النهائي لمحكمة العدل الدولية، ولكن من المهم ألا يخف الاهتمام، وألا يطغى النسيان- ونحن ننتظر هذا الحكم- على المأساة التي يعيشها سكان غزة والضفة الغربية المحتلة.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا