العهد الجديد ومهنة الاستشارات والتدريب (1-2)

نشر في 29-01-2024
آخر تحديث 28-01-2024 | 18:08
 د. محمد الدويهيس

في الخطابات التاريخية للقيادة السياسية ومنذ الخطاب الأول بتاريخ 22 يونيو 2022 الذي ألقاه ولي العهد آنذاك سمو الشيخ مشعل الأحمد الصباح، حفظه الله ورعاه، نيابة عن سمو الأمير الراحل الشيخ نواف الأحمد الصباح، رحمه الله، وفي الخطاب السامي لصاحب السمو الأمير الشيخ مشعل الأحمد الصباح في مجلس الأمة بعد أداء سموه لليمين الدستورية بتاريخ 20/ 12/ 2023، أكدت القيادة السياسية على نهج جديد في إدارة الدولة، يقوم على الكفاءة والعدل والمساواة ونبذ العنصرية والطائفية وحسن اختيار القيادات الإدارية، وقد أوضح سموه أن مرد الخلل الذي تعانيه الدولة يتمثل بالتقصير وضعف أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية.

وسأحاول في هذا المقال التطرق إلى وظيفتين مهمتين وأساسيتين كان لعدم الاهتمام بهما خلال العقدين الماضيين دور كبير في ضعف أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهما وظيفتا الاستشارات والتدريب،

ولا يختلف اثنان على أهمية التدريب ودور الاستشارات في رفع فاعلية المنظمات وكفاءة العاملين فيها، ويعد التدريب للموارد البشرية عنصراً مهماً في التنمية البشرية، فهو بناءً على تحديد الاحتياجات التدريبية المطلوبة Training Needs سواء على‏ مستوى الفرد (الموظف) أو على مستوى المنظمة يصقل الإمكانات والسلوكيات المبدعة والمتميزة ويردم الفجوة ويسد القصور في بعض الجوانب الإدارية والمالية والفنية، ويخلق موارد بشرية متسلحة بأحدث الأساليب الإدارية والعلمية والتكنولوجية الحديثة.

وفي الجانب الآخر تؤدي الخدمات الاستشارية دورا مهماً في وضع الرؤى والأهداف الاستراتيجية للمنظمات والحد من المشاكل قبل حدوثها ومعالجة الاختلالات الهيكلية والمشاكل الإدارية والاقتصادية والسياسية والفنية والتكنولوجية والتنظيمية بأسلوب علمي وفني راق، وخلق طبقة من الخبراء والمستشارين والممارسين الجدد مما يؤدي في النهاية لرفع كفاءة الأداء والإنتاجية.

وعليه فقد اهتمت دولة الكويت منذ استقلالها بالخدمات الاستشارية والتدريب بكل أنواعه الإدارية والفنية لإيمانها بدور التدريب والاستشارات في التنمية البشرية ‏والإدارية والاقتصادية، حيث سهلت الإجراءات للمختصين في هذا المجال من خلال تسهيل وتبسيط إجراءات منح التراخيص للمكاتب الاستشارية والمراكز والمعاهد ‏التدريبية، مما نتج عنه مساهمة هذه المكاتب الاستشارية والمراكز والمعاهد التدريبية في النهضة الاقتصادية والتنمية البشرية منذ الاستقلال مساهمة فعالة.

ويلاحظ المتابعون تدني مستوى أداء هذه المكاتب الاستشارية والمراكز والمعاهد التدريبية منذ الغزو العراقي الغاشم!! بل إنه بدأت بعض ‏الممارسات البعيدة عن الأهداف النبيلة التي رخصت هذه المكاتب والمعاهد والمراكز من أجلها تطفو على السطح!! ودخل في هذا القطاع الحيوي والمهم بعض الدخلاء والمتنفذين الذين يهدفون للربح السريع.

وقد وجد أدعياء مهنة الاستشارات والتدريب الفرصة سانحة أمامهم لكسب ما يمكن كسبه في ظل هذه الفوضى الإدارية والقانونية والتنظيمية، وكثر أدعياء «مهنة التدريب والاستشارات» سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القطاع الخاص، وذلك بسبب ضعف الرقابة والمتابعة من الجهات الرقابية الحكومية والأهلية، وأصبح المجال مفتوحاً أمام كل من هبّ ودبّ حتى صعب على البعض التمييز بين الغث والسمين، بل تفنن بعض أدعياء مهنة التدريب والاستشارات في عرض خدماتهم الاستشارية والتدريب بأساليب دعائية وتسويقية خادعة ومضللة لبعض طالبي هذه الخدمات في السلطتين التنفيذية والتشريعية، واستطاع هؤلاء الأدعياء من خلال المتنفذين وضعف المسؤولين الحصول على موافقة بعض الجهات بقبول خدماتهم الاستشارية، وقبول برامجهم التدريبية التي أغلب محتوياتها ومحاورها هزيلة وبعيدة عن مبادئ واشتراطات الخدمات الاستشارية والتدريبية والاحتياجات الفعلية للجهات الحكومية Actual Training Needs مما نتج عن ذلك مضيعة للوقت والجهد والمال والبعد عن الأسس والمبادئ العلمية والاحتياجات التدريبية الفعلية للموظف والجهة الحكومية.

وقد بدأت بعض المكاتب الاستشارية والمراكز والمعاهد التدريبية بانتهاز ضعف المتابعة والرقابة الحكومية من خلال سهولة الحصول على عدة رخص استشارية وتدريبية للشركة التدريبية نفسها وتحت مسميات مختلفة، حتى يمكنها التقدم للجهات الحكومية بعدة عروض استشارية وتدريبية من الشركة نفسها.

وقد عانت العديد من الجهات الحكومية من هذه الممارسات المضللة والمشبوهة مما أعاق التنمية والتطوير في هذه الجهات، بل إن بعض الجهات تكبدت خسائر مالية وتأخرت في تطبيق بعض المشاريع التنموية والبرامج التطويرية بسبب هذه الممارسات غير المسؤولة.

ولقد ضلل أدعياء مهنة الاستشارات والتدريب بعض البسطاء من المسؤولين والجهلاء ومديري مراكز ومعاهد التدريب والمتدربين وأبهروهم بأهمية الشهادات الورقية العديدة التي يتم منحها لهم من خلال حضورهم دورة تدريبية وحيدة لا يتجاوز عدد أيامها خمسة أيام، ولا تساوي في مادتها ومضمونها العلمي والتدريبي التكلفة المادية لهذه الشهادات الرخيصة.

وأخذ أدعياء مهنة الاستشارات والتدريب بالتواصل والتعاون والتضامن مع بعض الفاسدين والمتنفذين في الجهات الحكومية وتشكيل «مافيا منظمة» هدفها التشكيك في قدرات ومؤهلات وخبرات المدربين والخبراء والمستشارين الشرفاء وإقصائهم من العمل في هذا المجال من خلال تبني متطلبات جديدة وشروط زائفة لممارسة مهنة الاستشارات والتدريب من خلال حضور المتدرب والمستشار لدورة تدريبية لا تتجاوز مدتها الأسبوع وحصوله على شهادة مدرب أو مستشار معتمد وبطاقة تعريفية ومسمى وظيفي رنان في مجال الاستشارات والتدريب!!

في اعتقادنا أن الشروط والمعايير السابقة التي كان على أساسها يتم منح التراخيص من الجهات الرسمية للمكاتب الاستشارية والمعاهد التدريبية في الماضي لم تعد تتناسب مع الظروف والمتغيرات في مجال التدريب والاستشارات في الوقت الحاضر، وتحتاج الى إعادة النظر فيها، كما أن معظم الجمعيات المهنية في مجال الاستشارات والتدريب تعيش في سبات عميق، ولا تقوم بالمهام المطلوبة منها، واكتفت بممارسة العمل الروتيني والانتخابات السنوية لاختيار أعضاء مجالس إداراتها.

يتبع...

back to top