إنه الشتاء والشمس ترحل سريعا وبين لحظة وأخرى تنقلب السماء إلى مساحات من السحب المكتظة الحبلى بكثير من الماء والبرد وأحيانا بعض الثلوج، إنه الشتاء بعضنا لا يعرفه بل كثير منا راح ينتقل بين الملابس الخفيفة والثقيلة ويتذمر عندما تسطع الشمس، وتكثر من دفئها أو أن تختفي فيسقط المطر مع رياح باردة، إنه الشتاء بعضنا يحبه وآخرون يفضلون الصيف والحر حتى لو انقطعت الكهرباء واختنق البشر من حرارة المدن الإسمنتية، إنه الشتاء يقول بعضنا ليله طويل ويقول آخرون ليلنا طويل حتى بعد أن يرحل الشتاء، بعضنا يتذمر من شدة البرد وهو قادر على أن يلبس ما يبعث الدفء أو أن يشغل المدفأة وآخرون يتفاخرون بمعاطف الفرو المحرمة!!!

إنه الشتاء والليل في غزة كما نهارها معتم إلا من أضواء قنابلهم وصوت الرعد المختلط بالقصف المستمر، إنه الشتاء وليل غزة كما نهاراتها دون كهرباء ولا ماء ولا وسائل تواصل ولا أكل ولا ماء ولا دواء ولا ولا ولا، إنها غزة منذ السابع من أكتوبر تعيش دون مقومات الحياة التي نتذمر طويلا عندما لا نجد بعضها ولبعض الوقت فقط.

Ad

ماذا يفعل أطفال غزة في النهارات الطويلة غير الجري بعيداً عن صاروخ أو قذيفة، وإذا ما ابتعدوا لبعض الوقت راحوا يبحثون عن بعض الماء أو قطعة خبز أو حبة رز أو حتى أي وهم يتسلون به لينسوا ذاك الجوع والعطش، إنه الشتاء والطبيعة كما كل الكون تآمرت عليهم فأرسلت بعواصف قادمة من هنا أو هناك وهي في كلها لا تحمل سوى البرد للأجساد المتعبة والمنهكة والحزينة والعارية أيضا.

يرسل ذاك الصديق صورة وصلته للتو، وهي لما بقي من بيته الذي نزح منه بعد شدة القصف وكثرة الإنذارات وأصوات أبنائه القادمة من مدن بعيدة تناديه هو وأمهم بأن يرحلوا وأن يبقوا أحياء!! إنه الشتاء يقول بعضنا والجبال لم تكتسِ البياض حتى نذهب لممارسة هوايتنا في التزلج، ويقول آخرون في مدننا أيضا، والبرد لم يشتد لنخرج في رحلة برية في الصحراء نلعب ونمرح بين التلال وبعض الجبال الصغيرة، وأصوات التذمر ترتفع حتى تطغى على كل صوت آخر فلا نسمع إلا كثيراً من «النق» على أن الشتاء لم يأت بعد، وأننا نعاني لأننا لن نتزلج هذا العام!!

إنه الشتاء وأطفال غزة ينتفضون تحت زخات المطر المتجمدة في خيم غرقت في بحار من الماء وعندما يفرون بعيداً عنها ليس أمامهم سوى مزيد من المستنقعات وسط عتمة ليل غزة دون كهرباء ولا أي مظهر من مظاهر الحياة، إنه الشتاء وبعضنا يرحل إلى أوروبا للعيش في أجواء الهواء المثلج بمعطف دافئ فيما أهل غزة بل أهلنا يبحثون بين الركام وتحت الأنقاض عن بقايا «برواز» لصورة أو لوحة أو حتى حطام خزانة ملابس لبعضهم الذين كانوا هناك ليشعلوها علها تبعث بعض الدفء فيتحلقون حول النار باحثين عن بعض الماء وبضعة أكياس من الشاي ليسدوا معدتهم بشيء من الدفء الكاذب!!!

إنه الشتاء وصور الملابس الدافئة والكستناء المشوية تملأ يافطات شوارع المدن القريبة، وهم هناك لا صور لهم سوى بقايا بيت بل بقايا حياة، وبعض صور وذكريات، إنه الشتاء والحرب لا تزال تنهش في عظام أهل فلسطين هي والشتاء، وكأن الطبيعة تحالفت للمرة الأولى مع النازيين والدكتاتوريين بل مصاصي الدماء من البشر، فراح أهل غزة يرحلون وكأنه لم يكف النزوح بل اللجوء الأول منذ أكثر من سبعين عاما.

إنه الشتاء لا رحمة من البشر ولا الأرض إلا لو تصورنا أن هطول المطر المثلج رحمة ليوفر قطرة ماء عمل الصهاينة لسنين طويلة على منعها بل منع الفلسطيني من الاستفادة منها، إنه الشتاء لا غطاء لأهل غزة وفلسطين إلا جلدهم ولا كساء إلا بعض من قطعة قماش يتقاسمونها، ولا ماء سوى كثير من دمع نسائهم اللاتي يحملن جثث أطفالهن الصغار لمسارات طويلة وهن يذرفن الدمع بحثا عن حفرة يحمين فيها الجسد الطري بعيداً عن حقدهم ولا مبالاة الكون أو ضعفه إلا من بعضنا وبعضهم ومسيرات هنا ونداءات هناك.

إنه الشتاء وليس لأهلنا في فلسطين سوى جنوب إفريقيا تمدهم ببعض الأمل في ليل العرب والكون المعتم، ألا يستحق أحفاد منديلا أن يخلدهم التاريخ العربي والعالمي لأنهم من تبقى من البشر الحقيقيين الحريصين على إنسانية يعملون كلهم على قتل بعضها الباقي.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.