باريس كما شاهدتها: 7 لوحات ترسم المشهد الثقافي الفرنسي تحت درجة حرارة تصل إلى 3 تحت الصفر (الحلقة الأولى)
«الشانزليزيه» يحفظ هوية فرنسا التاريخية وينبض بالحيوية
باريس مدينة كل مبنى فيها له قيمة تاريخية، وكما وصفها الأديب فيكتور هوغو بقوله «عندما تزورها لأول مرة إما أن تكرهها أو أن تحبها» ومن مقهى إلى آخر يختلط فيه المارة مع السواح الذين تستقطبهم بروح فرنسية خالصة.
هذا الشارع التاريخي الذي يرتفع فيه قوس النصر منذ 188 عاماً، أيام نابليون بونابرت وإلى يومنا هذا، يمثل قلب فرنسا النابض بالحيوية والنشاط وبأوجه متناقضة، إلى جانب العاطلين عن العمل الذين يختارون «الزوايا» المكتظة بالجمهور بهدف جمع المال، هناك أشهر الماركات والمباني التاريخية، تتعدد فيه مظاهر جذب الانتباه من عزف الموسيقى إلى الأكل الحلال أو الطلب بتأمين مقر للنوم من سيدة عجوز تفترش البلاط وهي تحمي رأسها وتترك يديها ممدودتين لجمع ما تيسر لها من مال يكفيها.
باريس من عليائها
وبالطبع كان برج إيفل المبنى من الحديد على ارتفاع 330 متراً عن سطح الأرض نصيب من الزيارة، باعتباره أحد رموز معالم السياحة للعاصمة الباريسية وبطابقيه الأول والثاني، والذي ينقلك إلى الأعلى لمشاهدة المدينة من كل نواحيها الأربع ونهرها العظيم «السين»، الذي يشق باريس إلى نصفين تقريباً، وبحسب الطريقة التي تفضلها بالصعود والنزول هل مشياً على الأقدام أم بواسطة المصعد الكهربائي.
على ارتفاع 330 متراً يمكنك رسم صورة بانورامية لباريس من برج إيفل
وباريس من عليائها تختلف عن رؤيتها وأنت تتجول في شوارعها وتتنقل بسيارات الأجرة أو بالمترو تحت الأرض، هنا ستذهب عيناك إلى مداها الأبعد وتستمتع بالنظر إلى مبانيها المتراصة، والتي نبتت حولها بنايات شاهقة وأبراج نسجت خيوطاً دخيلة على مبانيها التراثية وتناسقها الجميل وذات الارتفاعات المنخفضة والمستوية.
عشرة ملايين يدخلون «اللوفر»
يوصف بأنه من أهم المتاحف الفنية في العالم، بني في الأصل كقلعة، عام 1190 تحوّل إلى قصر ملكي عرف باسم قصر اللوفر، وآخر من سكنه لويس الرابع عشر، ليتحول بعد ذلك إلى متحف يحوي تحفا ملكية ومنحوتات، وفي عام 1793 أصبح متحفاً قومياً يرتاده سنوياً نحو 10 ملايين زائر وسائح.
هرم زجاجي يدخلك في «اللوفر» من ضمن 10 ملايين زائر سنوياً
ذهبنا إلى منطقة شمال نهر السين، وبحجز مسبق، طوابير طويلة من الزوار ينتظرون الدور والدخول ومن جنسيات مختلفة، وإن كانت الأغلبية من دول آسيوية.
دخلنا من خلال هرم زجاجي افتتح عام 1999 وصلنا للطابق الأول وفيه مجموعات من الآثار الإغريقية والرومانية والفرعونية وبلاد الرافدين.
كان الإقبال على مشاهدة تحفة ليوناردو دافنشي المعروفة باسم موناليزا الشهيرة، التي رسمها عام 1503 ولوحة موت العذراء ولوحة تتويج نابليون ولوحة الحرية للشعب والأمير تشارلز.
آخر الممر سهم يشير إلى الفن الإسلامي بالطابق السفلي، وفي عدة معروضات من مقتنيات وآثار وزخرفة والسجاد ولوحات فنية ومنحوتات «5000 قطعة من الأعمال الفنية».
«موناليزا» تستحوذ على المشاهدة في متحف يحتوي على 380 ألف قطعة
يضم المتحف الشرقيات ومصر القديمة والحضارتين اليونانية والرومانية وعدة مدارس فنية.
له ثلاثة مداخل، مدخل رئيسي للهرم، ومدخل من مركز التسوق تحت الأرض، ومدخل من بوابة الليونز.
على طول الممرات توجد محال ومقاهٍ يمكن للزائر قضاء وقت أطول وممتع يحتوي على أكثر من 380 ألف قطعة ويعرض 35 ألف عمل فني موزعة على 8 أقسام.
بيكاسو و«قانونه العجيب»
لم يتم افتتاح متحف بيكاسو الوطني في باريس، وهو الثاني بعد متحف برشلونة من حيث المساحة والحجم، إلا في عام 1985، أي بعد وفاته بـ 12 سنة.
أغلق عام 2009 لمدة 5 سنوات وأعيد افتتاحه عام 2014، وهو مبنى متواضع عبارة عن فندق، لكنه تاريخي ويعود إلى عام 1659 وما إن تصله حتى يقابلك جسم حديدي للفنان الإسباني الشهير هو عبارة عن 3 أدوار يحتوي على 5000 عمل من أعماله، بما فيها اللوحات والمنحوتات والنقوش وأكثر من 10.000 قطعة أرشيفية، لكن لوحاته المعروضة لا تزيد على 400 لوحة تطالعك لوحة مكتوب عليها أن المبنى كان قصراً أقامه بيير أوبيرت جامع ضريبة الملح أطلق اسمه على إحدى القاعات.
الحكومة الفرنسية عدلت «قانون الميراث» لتضع يدها على لوحات أشهر فنان عُرف بـ «قانون بيكاسو»
جادة Marais في قلب باريس، حيث موقع المتحف المخصص لبيكاسو والفنانين الذين ارتبطوا به. هناك ما يعرف بقانون بيكاسو، ولهذا قصة مثيرة تقول إن الحكومة الفرنسية اضطرت إلى تعديل قانون ضريبة الميراث للسماح لورثة بابلو بيكاسو بدفع الضرائب المستحقة على ممتلكاته في الفن بدلاً من المال، ولهذا السبب وضعت الدولة يدها على معظم لوحاته ومنحوتاته ورسوماته.
ما إن تخرج من القاعات حتى يمتلئ ناظراك بحديقة جميلة داخلية مودعاً مؤسس الحركة التكعيبية وأكثر الفنانين شهرة في القرن العشرين.
متحف بومبيدو.. نمط معماري مختلف
يبدو من الخارج بألوان زاهية اندمجت بتصميمه الخاص المصنوع من الحديد والزجاج تصعد إلى الطوابق العليا بواسطة سلالم حديدية تشاهد باريس من فوق يضم مكتبة ومعهداً للصوتيات والموسيقى.
مركز بومبيدو أو متحف الفن الحديث يحمل اسم الرئيس جورج بومبيدو، الذي وضعت له صورة صغيرة طبعت على لوحة تحكي أبرز المحطات في تاريخ إنشاء متحف تتنوع معروضاته من الفنون الجميلة إلى السينما والتصوير والهندسة المعمارية، وقد تقرر بناؤه عام 1969.
اللوحات والمعروضات تغطي حقبة زمنية تمتد إلى 65 سنة، وفي مساحات مختلفة على أربعة طوابق بخلاف المقهى والمكتبة وأماكن ألعاب وقراءة للأطفال.
متحف بومبيدو مبنى من الحديد والزجاج... ووزن المعادن فيه يزيد على برج إيفل
الاسم الرسمي هو المركز الوطني للفنون والثقافات، افتتح عام 1977 واستغرق بناؤه 6 سنوات، استخدمت فيه التكنولوجيا الحديثة يقع في الدائرة الرابعة في باريس، وما يلفت النظر للزائر أن أنابيب التهوية والسلالم الآلية ظاهرة للعيان تأخذ مكانتها على الواجهات المعدنية للمبنى، وتختلف الأنابيب البادية على الواجهة فاللون الأزرق للتهوية والأصفر للكهرباء والأخضر للمياه، وزن المعادن المستخدمة نحو 10 أطنان، أي أكثر من المستخدم في برج إيفل «7 أطنان».
جامعة السوربون العريقة
تبقى جامعة السوربون هي المقصد، فهذه الجامعة العريقة عمرها الآن نحو 800 سنة مع التوسع والتميز الذي شهدته في مجال التدريس أصبح لها 4 فروع، السوربون 1 والسوربون 2 والسوربون 3 والسوربون 4، وإن ظلت السوربون الأولى هي أم الجامعات التي حافظت على هويتها واتجاهاتها السياسية، قمنا بجولة على المكتبة وقاعات التدريس والتقينا الدكتور فيليب بيتريا الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث ومدير معهد الدراسات الإسلامية، والذي يجيد اللغة العربية بطلاقة، واصطحبنا إلى مكتبه، وكانت له مساعدة بشرح آلية الوصول إلى الوثائق والمراكز المعنية.
مسجد باريس الكبير برفقة نعيمة
وأنت تستكشف ماذا في الدائرة الخامسة من معالم تدفعك لزيارتها، لا بد أن يستوقفك مسجد باريس الكبير الممتد بمئذنته ذات الطراز الإسلامي والمستوحى من مساجد المغرب العربي.
في باريس وحدها 26 مسجداً و44 قاعة صلاة، عدا عن 3 مساجد في الضواحي التي تسكنها جالية إسلامية كبيرة من الأفارقة والمسلمين والعرب، استرحنا قليلاً وفي فترة صباحية مبكرة بالمطعم المغربي الملاصق تماماً، واسمه مطعم المسجد، شربنا الشاي المغربي وتناولنا الحلوى الطيبة، وتبادلنا الحديث مع النادل المغربي الذي كان منهمكاً بترتيب الطاولات والمقاعد وسط قاعة مزينة بالزخرفة الإسلامية.
جولة في «السوربون» تعيدك إلى 800 سنة من عمرها
دخلنا المسجد من أوسع أبوابه، وإذ بسيدة قادمة سألتها: هل من أحد يساعدنا بالتعرف على معالم المسجد وماذا يحوي وقصته، أجابت بالموافقة، فهي على تواصل دائم، ولديها أطفال تأتي بهم إلى هنا لأخذ دروس وتعلمهم قراءة القرآن، والسيدة تسمى نعيمة قالت إنها جزائرية الأصل جاءت إلى باريس وعمرها 18 عاماً، وهي الآن فوق الخمسين.
طالعنا عدداً من أبواب المسجد التي تحيط به من كل جانب، فهناك باب اقرأ وباب الرحمة وباب التوبة وغيرها من الأبواب، وقفنا عند باب معهد الغزالي والمخصص لأخذ الدروس الدينية، وفيه غرف إضافية مخصصة للنساء اللواتي يقدمن محاضرات.
بهو واسع داخل المسجد وحديقة جميلة تطل على باحة متصلة بالباب الرئيسي، هنا قبر أحد الدعاة الجزائريين والذي أشرف على بنائه ويدعى سي قدور بن غبريط، علماً أن الأرض قدمتها فرنسا ذكرى وتخليداً لأرواح الجنود المسلمين الذين قتلوا أثناء الحربين العالميتين، وقد وضعت لوحتان تذكاريتان بالأسماء والمواقع التي شاركوا فيها من أجل فرنسا.
في قاعة الصلاة كان المسجد خالياً إلا من بعض المصلين والرواد الذين آثروا أن يستريحوا ويأخذوا غفوة من النوم بسبب شدة البرودة بالخارج، أقواس وأعمدة بيضاء تتوزع داخل القاعة يتقدمها منبر الخطابة التاريخي، والذي أهداه للمسجد الملك فاروق الأول سنة 1929.
ودعتنا السيدة نعيمة عند باب التوبة، لنخرج إلى الشارع وفي لحظة التوقف لنقرر أي الطرق سنسلك هل باتجاه معهد العالم العربي أم نسير في الأزقة التاريخية؟ طالعنا اسم مكتبة مكتبة باللغة العربية، مكتبة البستان.