تصاعدت، خلال الأيام القليلة الماضية، وتيرة الاهتمام بالأخبار الواردة من ولاية تكساس الأميركية، بعد حكم المحكمة العليا في الولايات المتحدة بإزالة الأسلاك الشائكة على الحدود مع المكسيك، والتي أقامها حاكم الولاية غريغ أبوت، للحد من تدفق المهاجرين إلى الولاية التي تعد خلال السنوات الأخيرة واحدة من أبرز الولايات الموالية للحزب الجمهوري، وتتمتع بثروات نفطية تتمثل في احتياطيات تتجاوز 9.5 مليارات برميل، أي ثلث احتياطيات الولايات المتحدة من النفط، الى جانب ما يوازي ربع إنتاجها من الغاز الطبيعي، وتمتلك بالشراكة مع جارتها «نيو مكسيكو» أكبر حقول النفط الصخري في العالم، المعروف بحوض برميان، وهذه كلها عوامل دعمت اقتصاد تكساس ليبلغ 24 تريليون دولار، وهو ما يعادل نحو عُشْر الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
ومع أننا لسنا في مجال الاستعراض التاريخي، إلا أن «مسألة تكساس» كانت دائماً حاضرة في آفاق العلاقة مع الحكومة الفدرالية الأميركية، منذ حصول الولاية على الاستقلال عن إسبانيا في أوائل القرن التاسع عشر، لتلتحق بالمكسيك، ثم تستقل بذاتها أخيراً وتنضم الى الولايات المتحدة كالولاية رقم 28 في اتحادها الفدرالي، وهي بالمناسبة الولاية الأميركية الوحيدة التي كانت يوما ما جمهورية مستقلة، غير أن ما حدث خلال الأيام الأخيرة ليس منعزلا عن تطورات مهمة حدثت في السنوات القليلة الماضية.
تاسع أكبر اقتصاد
فولاية تكساس، التي يوازي ناتجها المحلي تاسع أكبر اقتصاد في العالم، متجاوزة اقتصادات ضخمة كروسيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا وأستراليا والمكسيك، انتقلت من دعم الحزب الديموقراطي بتصويتها لباراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة عام 2008، هي اليوم بقيادة الحزب الجهموري الأقرب الى الرئيس السابق والمرشح القادم دونالد ترامب، الذي يمثّل التوجه اليميني المتنامي، وباتت بؤرة نزاع بشأن ملفات الهجرة، خصوصا أنها تعدّ من أفضل الولايات الأميريكية من حيث إمكانية الحصول على فرصة عمل في قطاعات الطاقة والطيران والتكنولوجيا والتعليم، إذ يبلغ معدل خلق هذه الفرص 4 بالمئة سنوياً، أي أعلى من المعدل الفدرالي البالغ 2.7 بالمئة.
وقد تحولت تكساس الى جبهة مواجهة تستخدم في حملات الانتخابات الرئاسية الأميركية نهاية العام الحالي، حيث تحوّل الأمر إلى مقايضة، عبر ربط إقرار المساعدات لأوكرانيا، (إحدى أولويات بايدن)، بتوفير تمويل لتشديد أمن الحدود في تكساس، وفق مطالب الجمهوريين.
تداعيات وآثار
وربما يكون هناك حديث طويل عن وزن اقتصاد تكساس في حجم اقتصاد الولايات المتحدة، بل حديث أطول عن مدى إمكانية وشروط وضوابط الانفصال بكل تعقيداتها وآليات تنفيذها، فإن للحدث تداعيات غير مباشرة تتجاوز الولايات المتحدة الى مناطق أخرى في العالم، وصولا الى منطقة الخليج العربي، فالوضع كما لو كان جرس إنذار خافت لدول المنطقة يحتاج إلى من يسمعه، فالتداعيات - سواء كانت اقتصادية بالأصل أو ذات صلة على صُعد أخرى - كلها ذات آثار عميقة على أمن ومصالح واستقرار ومستقبل دول الخليج والمنطقة، ومن أهمها:
نحو اليمين
بروز تكساس كولاية نفطية، جمهورية مستقلة مناهضة للهجرة، يعني إضافة جديدة في المزاج العالمي المتجه نحو اليمين المتطرف، أو الشوفينية بكل ما تحمله من مغالاة أو نزعات متطرفة، الذي بدأ نجمه يتصاعد منذ سنوات مع صدمة «بريكست» في بريطانيا، ونجاح ترامب في الولايات المتحدة، وتحول «الترامبية» الى حالة شعبية، بالتوازي مع نجاح أحزاب اليمين في الانتخابات بالعديد من دول العالم، كنجاح ناريندرا مودي في الهند بقيادة حزبه الهندوسي المتشدد «بهاراتيا جاناتا»، فضلا عن تواصل سيطرة بوتين في روسيا، إضافة إلى فوز أحزاب اليمين في المجر والنمسا والسويد، وأخيرا في إيطاليا وهولندا، مع تنامي قوة هذا الأحزاب في فرنسا وألمانيا، فضلا عن عودة أحزاب اليمين للحكم في أميركا اللاتينية، مثل كولومبيا والباراغواي، وأخيرا الأرجنتين.
وكلما تصاعد «مزاج اليمين» في العالم، كان ذلك أكثر خطورة على توقّعات السلام، وتزايد مخاطر الحروب العسكرية، فضلا عن تصاعد السياسات الحمائية في التجارة الدولية، وصولا الى إعادة سيناريوهات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي لازمت فترة رئاسة ترامب منذ 2016 الى 2020، والأهم من ذلك كله هو الأكثر التصاقا بمنطقة الخليج، أي أن يتحول «ابتزاز» ترامب السياسي والاقتصادي والمالي، فضلا عن لغته القبيحة لدول مجلس التعاون الخليجي، الى جانب دوره في تأجيج الخلافات البينية الخليجية الى حالة معتادة عالميا.
تقويض وتفاوت
وينطوي على ما سبق، أي تنامي النزعة اليمينية، العديد من التداعيات التي توثر على الدول وحتى المجتمعات، فضرر تولي أحزاب اليمين للسلطة - وهو غالبا نتيجة إخفاق اقتصادي أو هزيمة حرب - لا يتوقف عند تقويض الديموقراطية أو حتى الصدام مع المؤسسات، إنما يصل الى أن يتجه العالم أكثر نحو تقويض المكاسب الاجتماعية من حيث التساهل في إطلاق برامج الخصخصة، من دون النظر إلى عواقبها على العمالة الوطنية أو الشرائح المجتمعية، الى جانب خفض فاتورة الدعومات لقطاعات التعليم والصحة، حتى لو عززت التفاوت الطبقي في المجتمع مع تقلّص حجم الطبقة المتوسطة.
وكلما قوضت الديموقراطية في العالم وتقلصت صلاحية المؤسسات، كانت إمكانية تنميتها في الكويت ودول الخليج أقل وأضعف، فضلا عن أن منظومة حماية المكاسب الاجتماعية ستكون أكثر هشاشة، لا سيما مع التوجهات المتنامية في منطقة الخليج العربي أخيرا، الداعية إلى تحميل المجتمعات مسؤولية الإخفاق الاقتصادي، كالانفلات في الخصخصة، وتقليص الدعوم، وهو ما سيدعم أفكارا تتجه بحجج الإصلاح الاقتصادي الى دفع المجتمع - خصوصا الطبقة المتوسطة والأقل دخلا وتأثيرا في اتخاذ القرار - فاتورةَ الإخفاق الإداري والمالي.
مناخ وأسواق
ربما يكون ملف الطاقة لولاية تكساس هو الأكثر ارتباطا، بشكل مباشر، مع منطقة الخليج العربي، لا سيما تجاه مسألتين غاية في الاحتكاك المباشر مع دول المنطقة، الأولى تتعلق بمدى تصورات الولاية النفطية/ الجمهورية تجاه قضايا البيئة والمناخ، والثانية علاقتها بمنتجي النفط التقليديين ضمن منظمة أوبك أو مجموعة أوبك بلس.
فقضايا المناخ هي العدو الأول لكل أحزاب اليمين في العالم، وقد عبّر عنها ترامب باستخفافه بالقول إنها «أوهام بيئية وطواحين هواء»، متوّجا قوله بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ 2015، وصولا الى تعهّد الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميلي بإلغاء وزارة البيئة، وهنا قد تستفيد دول الخليج المنتجة للنفط من تخفيف الضوابط البيئية على صادراتها النفطية والبتروكيماوية والغاز، أو ربما تكون هي مَن سيدفع ثمن تخلّي الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، عن اتفاقات وسياسات البيئة والمناخ.
أما فيما يتعلق بالعلاقة مع منتجي النفط التقليديين، فتكساس أقرب للمنتجين المستقلين الذين يعتبرون «أوبك» منظمة احتكارية واجب عقابها لتحكّمها في أسواق الطاقة، بما يناقض حرية التجارة والتأثير على موازين العرض والطلب، ودخولها سوق النفط كدولة سيُضعف منظمة أوبك، وبالتالي أسعار النفط المدعومة حاليا باتفاق خفض الإنتاج ضمن مجموعة أوبك بلس، فضلا عن تداعيات المخاطر الأمنية والعسكرية المرتبطة بالحرب الروسية - الأوكرانية وأحداث الشرق الأوسط، كالعدوان على غزة، ومخاطر الملاحة في البحر الأحمر، وفي كل الأحوال، فإن استقلال تكساس سيمثّل سياسة نفطية خاصة لكيان مستقل عن سياسة الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية - الخليجية، والتي من ضمنها العمل على ترتيب تفاهمات حول قضايا متعددة، ومنها سوق النفط.
تشابك وتحييد
في الحقيقة أن سطوع نجم اليمين في العالم كان بداية لكوارث دفعت البشرية ثمنها لعقود طويلة، وليس هناك أوضح من أثر صعود النازية في ألمانيا، والفاشية بإيطاليا في الحرب العالمية الثانية، وربما هذه تداعيات لا قدرة لنا في دول الخليج على التحكّم في مآلاتها أو مسبباتها، لذلك من المهم أن نكون أكثر واقعية في إدارة شؤون الاقتصاد والأمن الاستراتيجي من ناحية العمل على خلق تشابك مصالح بين دول مجلس التعاون، وتحييد دول الإقليم كالعراق وإيران عبر استخدام الدبلوماسية لخدمة مشاريع الاقتصاد والأمن المشترك، فضلا عن إيجاد آليات تمنع تكرار الخلافات البينية بين دول مجلس التعاون.
فإن لم نستطع التصدي لتحولات العالم ومخاطره، فلا أقلّ من أن نخلق المصدات، ونستحدث الإجراءات الوقائية لتخفيف أي آثار سلبية على المنطقة ومستقبلها وشعوبها.