تحفر في البحر
الضجر ليس المرض الذي يعني أن لا شيء يمكن أن تصنعه، وإنما هو نتاج قناعة ذاتية بأن هناك أمراً لا يستأهل أن تفعله، الضجر عند الكاتب سفندنسون لارد هو وليد الحياة المدنية المعاصرة، في السابق كان الضجر يكاد يكون محصوراً عند النبلاء ورجال الدين الذين هم فوق طبقة العامة في مجلس طبقات الشعب قبل الثورة الفرنسية.
الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا (ذات المصدر السابق) الضجر عنده «أحاسيس تملأ أرواحنا مثل الضباب وتحول دون التصرف والتفكير، كما لو أننا لم ننم، وأن هناك شيئاً من أحلامنا ظل باقياً فينا».
دائرتا الكآبة والضجر تتقاطعان كما يقول الكاتب لارد في كتابه «فلسفة الضجر»، ويحدد هذا بأن الضجر ليس صفة ذاتية للنفس الإنسانية، إنما هي حالة لهذا العالم، للحياة الاجتماعية الغارقة بالملل.
الضجر هو شعور طاغٍ بعدم الجدوى في نهاية الأمر، عدم الجدوى فيما تحاول أن تغيّره أو أن تحقق نتيجة ما بفعلك، مثلاً، لا جدوى مما يكتب ويتحدث به كثيرون عن البيروقراطية وهيمنة السلطة الإدارية المتغطرسة في إدارات الدولة.
عدم جدوى أن تقرأ كل يوم في صحفنا اليومية الهراء ذاته يتكرر كل يوم، كلمات تتغير حسب اسم الكاتب أو الخبر، والمحتوى ثابت لا يتبدل، قضايا صغيرة تافهة تجذب المسطحين فكرياً للانتشاء بها والطرب من أجلها، حين تكون الثقافة الجادة غائبة عن فكر الأغلبية.
عدم الجدوى هو أتربة داكنة تخنق أنفاسك حين لا تجد تغييراً في نمطية الإدارة، الوجوه الرسمية تتغير أشكالها، إلا أن النهج يعيد ذاته، صورة وزير ما يزور مرفقاً عاماً ومعه جوقة من المصورين ليراقب «سير العمل»... ماذا يعني إن زرت أم لم تزُر؟ ما شأننا؟ البشر ينتظرون النتائج على الأرض، وليس صوراً مزركشة تملأ صفحات الخيبة.
عدم الجدوى سلاسل ثقيلة تدمي روحك حين تصدم بمشاكل المرور وزحمة السير وحرب الشوارع وأسفلت الطرق المكسر، ومقاولات وبعدها مقاولات تصليح، وشهور وسنوات طويلة تمضي ولا يحدث تغيير.
ضجر يلف الروح عندما تصبح «سيزيفاً» يدفع الصخرة للأعلى لتتدحرج من جديد بلا نهاية، لماذا في مثل دولنا يصبح المثقفون الواعون طلاب الإصلاح «سيزيفات» والأنظمة الحاكمة هي الآلهة اليونانية التي لا تكترث لحديث العقل ولا لشقاء سيزيف، وتبقى شعوبها تراوح لقرون ممتدة أسيرة الأوهام والخرافات؟!
ضجر... لا جدوى... هي حالة صحية، إذا كنت تعانيها فلا عيب فيك، وإنما في عبث الحياة هنا، حكمة المتنبي «ذو العقل يشقى بالنعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، صادقة، فإذا أردت راحة البال فما عليك إلا أن تنضم لحزب الجهالة، أما أهل العقول فهم يدفعون الصخور للأعلى، أو يحفرون في البحر... لا جدوى.