لست من المقتنعين بعبارة «كل شي فرنجي برنجي» على إطلاقها، وبالمقابل لست من معلّقي فشلنا في كل صغيرة وكبيرة على نظرية المؤامرة، فبين هذه وتلك، كثير من النقاط المضيئة التي تلتقي على هديها الثقافات وتتمازج في بقعتها الحضارات، وتشكل مصدر إشعاع يستمد منها كل طرف قبسات من نجاحات وتمايز وخصوصيات الآخرين.

فبعين الغرب قد ينظر للمسلمين والعرب على أنهم المستعمرون لبلاد شبه الجزيرة الإيبيرية والمحتلون لأرضها بغية نشر عقيدة كانت غريبة عن قناعات سكانها، في حين نتباهى جميعاً بحضارة الأندلس التي كانت نتيجة طبيعية لسماحة وانفتاح الحضارة الإسلامية التي وازنا في وقتها بين علوم الدين وعلوم الحياة.

Ad

ومن جهة أخرى، كلنا ندرك أن «رامبو» البطل المنقذ في الأفلام الهوليودية، و«أسامة» الملتحي الإرهابي، و«خديجة» المحجبة المغلوب على أمرها، و«جيمس» صاحب البشرة الداكنة الذي هو أقرب الى حياة الشوارع من قاعات الدراسة، كلها نماذج نمطية اخترعها وسوقها صنّاع المحتوى الإعلامي والثقافي والفني في الغرب، كتكريس لنوع من الطبقية والتمييز العنصري ولتعزيز الخوف المتنامي من كل يمتّ الى الإسلام والعروبة بصلة.

الا أنه بالمقابل، تقتضي الموضوعية أن نقر بأن مؤسسات العدالة الغربية تبدو في أكثر من مناسبة أكثر تفاعلاً– ولو بشكل نسبي ومتفاوت- مع حقوق الإنسان وموجبات حماية المستضعفين، فها هي محمكة العدل الدولية تنتصر بحكمها الأولي الصادر في 26/ 1/ 2024 لعذابات أهالي غزّة، وها هو المجلس الدستوري الفرنسي يبطل قبل يوم من ذلك (34) مادة من «قانون الهجرة» المثير للجدل فيما تضمنه من تشدد اتجاه حقوق المهاجرين وتمييز ضد الأجانب.

وها هي محكمة العدل الدولية في قرار أولي تدين، ولو معنوياً، الوحشية الإسرائيلية التي صمت عليها العالم لعقود طويلة، وها هي دولة جنوب إفريقيا تتماهى مع مبادئ زعيمها المناضل «نيلسون مانديلا» فتنتصر لغزّة وأهلها من خلال مؤسسات العدالة الدولية وقنوات القانون الدولي الإنساني، في حين اكتفينا نحن بالتنديد والنصرة المعنوية وتغطية خجلنا ببعض التبرعات المادية!

ورغم أن قرار محكمة العدل الدولي، سيبقى على الأرجح حبراً على ورق، كونه من قبيل «التدابير المؤقتة» التي يفترض لتنفيذها تدخل من قبل مجلس الأمن الدولي الذي تقع قراراته تحت رحمة حق النقض الأميركي، ورغم أن المحكمة لم تفرض وقفاً فورياً لإطلاق النار ولم تصدر- رغم التلويح بذلك- حكماً نهائيا بارتكاب الكيان الصهيوني جريمة الإبادة الجماعية التي هي محور المطالبة الجنوب إفريقية، يبقى هذا القرار غير المسبوق نقطة شرف في جبين مؤسسات العدالة الدولية، وإدانة معنوية واضحة للعدو الإسرائيلي، مما سيحرج الحكومات الغربية في تأييدها المطلق والأعمى له، وبخاصة أنها تدّعي- على الأقل أمام شعوبها- تمسكها بمقتضيات العدالة الدولية وأحكام مؤسساتها.

الجيّد في المسألة أن المسار القضائي ما زال في بداياته، وأن العدالة الدولية لن تكتفي في حكمها النهائي بما انتهى اليه القرار الأولي لمحكمة العدل الدولية التي أوجبت «على إسرائيل، وفقاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة، أن تتخذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال التي تدخل في نطاق المادة الثانية من الاتفاقية».

من ناحية أخرى، ها هو المجلس الدستوري الفرنسي يتصدّى بسلاح العدالة والإنصاف لمحاولات اليمين الفرنسي المتطرف التضييق على المهاجرين والأجانب من خلال تطبيق أحكام «قانون الهجرة» الذي تم إقراره في 19/ 12/ 2023 بعد جدل واسع في الأوساط السياسية والشعبية. فقد ألغى القضاء الدستوري الفرنسي، (32) مادة بشكل كلي، و(3) مواد بشكل جزئي، من المواد الـ(86) التي تضمنها القانون، وذلك لمخالفتها الدستور ومبادئ الجمهورية فيما تضمنته من تضييق على الأجانب من غير الأوروبيين بحرمانهم من بعض الحقوق المادية والمعنوية، ومن أبرزها حق الإقامة والحصول على جنسية، والحصول على إعانات اجتماعية وسكن، ولمّ شمل العائلات، وإقامة الطلاب المنتهية دراستهم في فرنسا.

يعنينا من كل ما سبق مسألتان أساسيتان، واحدة ترتبط بالبعد الديني والقيمي لشعوبنا، حيث علينا الاعتراف أننا عندما انغلقنا على أنفسنا وتمادينا في التطبيق الشكلي للتعاليم الدينية السامية، وعندما تراجعنا الى الوراء بتشتتنا شيعاً وقبائل، جنينا ما نعيشه من جهل وتراجع وخيبات، في حين ينجح الغرب يوماً بعد يوم بتسويق نفسه موئل العلوم وموطن الحضارة المعاصرة والمدافع الأول عن حقوق الإنسان!

أما المسألة الثانية، فهي ترتبط بما يقتضي أن تكون عليه مؤسسات إنفاذ القانون وإحقاق العدالة في أوطاننا، من تميّز في التدبير وجرأة في التقرير، بما يكرس انسجامها مع موجبات إحقاق الحق، وبما يتفق مع ما جبلنا عليه من قيم إنصاف وعدل ومساواة واحترام للإنسانية، بصرف النظر عن الجنسية والجنس والأصول ولون البشرة.

أما الحقيقة التي ترتبط بكلا المسألتين، فهي أننا تركنا لجنوب إفريقيا ولمحكمة العدل الدولية أن يقولا ويفعلا أقل ما يجب أن نقوله وأن نفعله.

* كاتب ومستشار قانوني