مجموعة «نوادر البابطين»... والقطارات!
الجزء 24 من «نوادر النوادر» الذي أصدرته مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي في يناير 2024 لا يواصل مسيرة المجموعة القيمة من الإصدار فحسب، بل هو ربط لتراث مطبوعات القرن العشرين والتاسع عشر النادرة بأجيال جديدة من قراء العالم العربي، حيث لم يسمع الكثير منهم حتى بعناوين هذه الكتب في بعض الأحوال فمن سمع بكتاب «الصارم البتار في رحلة سالار» أو «المخزون في تسلية المحزون» وغيرها من العناوين؟
مختارات المجلد 24 بتنوعها وإيماءاتها خير دليل على ما يقوله الأستاذ «عبدالكريم سعود البابطين» في تصدير الكتاب عن «المجادلات والمحاورات» التي لم تكن تنتهي بين رجال الفكر في الثقافة العربية، بل كانت أحيانا تعلو لتصل إلى الاتهام والتجريح أو اللين واللطف، ولكن الصدع كان دائما مفتوحا على المستقبل، ذلك أننا، كما تقول الأستاذة سعاد العتيقي «أمة فتنتها الكتب النادرة والنفيسة».
من كتب نوادر البابطين كتاب «سر مملكة» المطبوع في مصر عام 1895 وهو من تأليف الصحافي «سليم سركيس»، ويتحدث عن تاريخ سلاطين تركيا والدولة العثمانية، ويقول المؤلف «هذه المرة الأولى التي ظهرت فيها هذه التفاصيل في اللغة العربية، وقد حاولت تركيا ابتياع كتابي هذا فامتنع عليها».
من نوادر المجموعة «التحفة الإيقاظية في الرحلة الحجازية»، المطبوع عام 1913 في المطبعة المحمودية بالبصرة
ولا يقدم الكتاب أسماء المؤلفين، ومن ذلك «المخزون في تسلية المحزون»، ويقول مصحح الكتاب إنه «تبصرة للغافلين وعظة للسامعين»، والكتاب «المخزون» وثيقة تنتمي إلى زمن عم فيه البؤس وانتشر الظلم والجوع والفقر حتى هجر الكثيرون الدنيا، التي قال فيها الحسن البصري إنها «كمثل رجل، نائم فرأى ما يعجبه ثم استيقظ فلم ير شيئا».
ومن نوادر المجموعة «التحفة الإيقاظية في الرحلة الحجازية»، المطبوع عام 1913 في المطبعة المحمودية بالبصرة، وفيه يصف «الحاج سليمان فيضي الموصلي» مكة المكرمة وشعائر الحج، بعد أن وصل إلى «جيبوتي» «وجدة» بالباخرة، ثم توجه المؤلف مع رفقائه «على الحمير إلى مكة المكرمة»، كما جاء في التعريف.
وكان الركب يستريح بين فترة وأخرى في بعض المقاهي على الطريق لتناول الطعام، حتى وصلوا بعد معاناة كبيرة الى مكة المكرمة، وبعد انتهاء موسم الحج «حجز في القطار المتجه الى بلاد الشام، وودع قبل سفره قبر الرسول عليه السلام وصلى في الروضة المشرفة».
ويدخل المجلد 24 من نوادر البابطين طرفا في الجدل الدائر حول كتاب «العين» لخليل بن أحمد، واضع علم العروض ومحدث أنواع من الشعر ليست في أوزان العرب، ومؤلف «معجم العين»، وكان أحد أعظم محققي المخطوطات، الأب «أنستاس ماري الكرملي»، (ت 1947) قد تصدى لتحقيق ونشر «كتاب العين»، ولكن كتاب «النوادر» يتحدث هنا عن «قطعة من كتاب العين» فقط.
وجاء في الشرح أن «لطباعة قطعة من معجم العين قصة، فقد كانت لدى المحقق نسخة كاملة من المعجم، وشرع في طبعها، ثم نُفي سنة 1914 الى تركيا وعندما عاد الى بغداد وجد أن خزانة كتبه قد نهبت وبيعت الأوراق المطبوعة للعطارين، فحاول استعادة ما أمكن من الأوراق، فلم يسلم من الكتاب سوى 140 صفحة كان منها هذه الطبعة». (نوادر النوادر، ص71).
ويتناول الكتاب بعض أوائل الكتب العربية في التعريف بفكرة الدستور وحق الانتخاب، وهو كتاب القاضي بالمحاكم الأهلية المصرية «عبداللطيف غربال» المطبوع بالإسكندرية في مصر عام 1922 بعنوان «مبادئ التشريع الدستوري والأنظمة البرلمانية». يبدأ الكتاب بفصل عن «حقوق الإنسان»، ويقول «غربال» إنها الحقوق الخاصة بالمرء التي لا يمكن أن يتنازل عنها ولا يجوز للحاكم أن يتعرض لها وتتلخص بكلمة واحدة هي «الحرية».
وفي فصل حرية الاعتقاد يعرفها بأنها «أن يكون للإنسان مطلق الحرية في رأيه الديني ومعتقده، وحرية الدين هي حق الإنسان في اعتناق أحد الأديان، وأداء الفروض الخاصة بالديانة التابع لها». (ص77) يتلوه في مجلد «النوادر» كتاب آخر في الديموقراطية، بعنوان «القانون الدستوري المصري» ويتناول تطور الدولة المصرية ابتداء من الفتح العثماني عام 1517 إلى الوقت الحاضر، وضمنه نص الدستور الحالي وكافة المجالس السابقة ومؤلفه د.محمود حسن الفريق (طبع 1922).
من المطبوعات التي استوقفتني كتاب أو كتيب (67 صفحة) بعنوان «نشوء وتطور السكك الحديدية»، وهو عنوان ليس بالجديد لولا أن المؤلف العراقي الأستاذ محمود النائب أضاف على عنوان الكتاب تكملة منذ فجر التاريخ حتى سنة 1825، فهل للقاطرات مثل هذا التاريخ المديد في حين لم تظهر السكك الحديدية والقاطرات كما نعرفها إلا منذ قرنين أو ثلاثة لا من فجر التاريخ.
وراجعت الموسوعة البريطانية الدولة التي ولدت فيها القاطرات الحديثة فإذا بها تؤكد أن بعض مؤرخي وسائل المواصلات يشير الى وجود بعض أشكال القاطرات في أوروبا منذ عام 1550 لكنها كانت تستخدم في مناجم الفحم، اما مؤلف الكتاب الأستاذ محمود فيرجع ظهور وسيلة النقل هذه فعلاً الى فجر التاريخ، ويقول: «إن البابليين والآشوريين فكروا في طريقة لسير العربات في الأماكن الوعرة دون سقوطها في المنحدرات فأنشأوا صفين من الحجر على طول الطريق تسير عرباتهم عليه... وفي سنة 245ق.م وضع المهندس بيلوس تصميم إنشاء الخطوط الثابتة، وهي عبارة عن صفين من الحجر متوازيين ارتفاعهما نصف قدم والمسافة بين الصفين أربعة أقدام وهذا المقاس يعتبر مقياسا صالحا للسكك الحديدية الحديثة واستعملت الشاحنات الحديدية الكبيرة التي تجرها الخيول وفرشت الأرضية بطبقة من الرمل تسهل حركة العجلات».
ويرى أن اليونانيين قد نقلوا السكك عن البابليين وقد «أنشاها رجال الدين والكهنة للتنقل من مكان إلى آخر وبدلا من رصف الأحجار عمدوا إلى حفر أخدودين متوازيين في الصخر تدخل فيهما العجلات وهي أصلح من مثيلتها البابلية». (ص327). ونترك القضية للتحقيق والبحث!
لقد تحولت مجموعة النوادر فعلا إلى موسوعة قيمة للتعريف بالمطبوعات العربية النادرة، وبات من الممكن دراسة بعض المواضيع من خلال ما صدر عنها من كتب في مصر والعراق ولبنان وهناك كتب «ببلوغرافية» للتعريف بمثل هذه النوادر والكتب في المكتبة العربية لكن مجموعة النوادر لا تزال في تميزها الذي يليق بمكتبة البابطين.